*رحيق الأمكنة: ذكرياتي في بورتسودان (1987-1989م) ميرغني عبدون إنسان نادر على طريقته! أحمد إبراهيم أبوشوك (1)*

رحيق الأمكنة:
ذكرياتي في بورتسودان (1987-1989م)
ميرغني عبدون إنسان نادر على طريقته!

أحمد إبراهيم أبوشوك

(1)
ليست المدن فضاءات ساكنة، أو ظواهر جغرافية ثابتة، بل مسارح لحيوات الناس وأنشطتهم، لأنها تذكرهم بأفراحهم الجميلة وأتراحهم المحزنة، وبين النقيضين محطات متشابهات. تقودنا تلك المحطات المتشابهات إلى مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر، المدينة الساحرة التي سمعنا عنها ونحن أطفال صغار بقرية قنتي، من أبناء السكاكة الذين كانوا يأتون بانتظام لقضاء عطلاتهم المدرسية بين أهلهم وعشيرتهم الأقربين، ويسمرونا بمشاهداتهم على طول الطريق الرابط بين سواحل البحر الأحمر وشواطيء نهر النيل عند نواحي السافل، ومن واقع ذكرياتهم في ميناء الثغر، الذي أسسه المستعمر عام 1905م على مقربة من ضريح الرجل الصالح الشيخ برغوت، الذي كان مزاراً للبحارة والصيادين القدامى، والسواح أمثال البرتغالي خوان دي كاسترو الذي زار تراديت (بورتسودان) في القرن السادس عشر الميلادي، ووصفها بأنها مرسى متواضع يقع شمال سواكن، وذكر بعض محاسنه الجمالية على ساحل البحر الأحمر. وبعد أربعة قرون من ذلك التاريخ أمر اللورد كرومر، المندوب البريطاني السامي في القاهرة، بإنشاء ميناء بديل لميناء سواكن، الذي أعاقت الشعب المرجانية حركة الملاحة البحرية فيه. وبعد تأسيس الميناء عام 1905م تغير اسمه من مرسى الشيخ برغوت إلى بورتسودان (Port Sudan)، الاسم الإنجليزي للميناء، والذي أضحى يُكتب بالأحرف العربية بورتسودان (بوصل حرف التاء بحرف السين)؛ وينطقه العامة باسقاط التاء: “بورسودان”، وذلك قياساً على بعض الموانئ الساحلية المصرية، مثل بورسعيد، وبور فؤاد. وشرَّف حفل افتتاح الميناء الجديد الخديوي عباس حلمي الثاني واللورد كرومر، وذلك في أول أبريل 1909م، وسُجلت تلك المناسبة التاريخية في لوحة برونزية تذكارية، وضعت على جدران المخزن رقم (4) بالرصيف الشمالي بميناء الثغر.

ومنذ ذلك الحين بدأت بورتسودان تنمو بمتوالية هندسية من الناحية العمرانية، والسكانية، والأنشطة التجارية، والمرافق الحكومة والمؤسسات الخاصة المصاحبة لها، وذلك على حساب مدينتي سواكن وطوكر.
(2)
بعد التخرج من جامعة الخرطوم، وتحديداً في شتاء عام 1987م، جلستُ لامتحان وظائف الضباط الإداريين، وكان عدد الجالسين للامتحان التحريري 4000 خريج جامعي، نجح منهم 400 فقط، وكان عدد الوظائف المعلنة مائة وخمسين وظيفة. وبعد ذلك خضعنا للمقابلة الشخصية بلجنة الاختيار والخدمة العامة، وكانت الأسئلة بعضها مرتبط بالثقافة العامة، وبعضها بمجال التخصص وطبيعة العمل المهني المقرون بالوظيفة. ومن أطرف الأسئلة التي عُرضت علينا في تلك المقابلة كانت من نصيب الأخ الصديق: عوض حاج إدريس، من أبناء أم دم حاج أحمد بكردفان. إذ طلبت لجنة المقابلة منه أن يذكر ثلاث نساء شهيرات في العمل العام، فكانت إجابته على النحو الآتي: “ويني مانديلا، كورازون أكينو (رئيس الفليبين: 1986-1996م)، وحنان بلوبلو”، فأنفجر أعضاء اللجنة ضحكاً من سرعة بديهة الأخ عوض وإجابته الساخرة بذكر الفنانة حنان بلوبلو ضمن شهيرات العالم آنذاك. فكانت حنان من المغنيات صاحبات الأصوات الشجية التي تضج بها مركبات الخرطوم العامة في عقد الثمانينيات (يا بلال تزورني مرة)؛ بيد أن هذه الإجابة الساخرة لم تشفع له، بالرغم من أنَّ الأخ عوض الله كان مغرماً بالعمل في وزارة الحكومات المحلية، وتوزيع الأبيضين (السكر والدقيق) على المواطنين، بغية تنامي الجاه والثروة، ولكنه أعتذار لجنة الاختيار دفعه إلى ولوج العمل التجاري وكسب الرزق في سوق الله أكبر، بعيداً عن قيود الوظائف الديوانية ودخلها المحدود.
في شهر يونيو 1987م أُعلنت نتائج المقابلة الشخصية، وظهر أسمي ضمن المائة وخمسين ضابطاً إدارياً، ذهبنا بعد ذلك إلى وزارة الحكومات المحلية المطلة على شارع النيل الأزرق، حامدين شاكرين، لتكملة الإجراءات الديوانية، واستلام الزي الرسمي وشاراته الصفراء. وفي 10 أغسطس 1987م صدر خطاب تعيني من وزارة الحكومات المحلية (الخرطوم) إلى السيد أمين عام الحكومة بالإقليم الشرقي، وكان نصه يقرأ هكذا:
التاريخ 10/8/1987م
النمرة وم أ/خ ع/50/و/6/9
السيد أمين عام الحكومة
الموضوع: تعيين مساعدي ضباط إداريين
بالإشارة إلى خطابكم بالنمرة 50/ج/م2 بتاريخ 21/7/1987م، واستناداً على التفويض الممنوح من السيد وكيل ديوان شئون الخدمة بموجب المنشور رقم 2/ 87 بتاريخ 23/2/1987م، وبناء على موافقة لجنة الاختيار المركزية بالنمرة 50/ب/8/م2 بتاريخ 17/6/1987م. بهذا قد صودق لكم اعتباراً من 1/7/1987م بتعيين السيد/ أحمد إبراهيم أحمد شوك، بشرط أن يكون لائقاً طبياً، وأن يوقع على التعهد الوارد بالمادة (13) من لائحة الخدمة العامة لعام 1975م، في وظيفة م. ضابط إداري بالدرجة التاسعة، القطاع (ع1824/2616) براتب سنوي وقدره 1968 جنيه، على أن يمنح علاوة إلى 2040 في 1/7/1988م… وقد تم تعيينه على الوظيفة رقم (5/د) بسجل .. مكتب المحافظ كسلا، لعام 1986/1987”
وفي تلك الأثناء وصلني خطاب من الوالد الكريم، جاء فيه:
“قنتي: 24/8/1987م
الابن العزيز أحمد شوك
تحياتي وأشواقي، وتحيات الوالدة والأخوات والإخوان إليك، أتمنى أن تكون بصحة جيدة، كما نحن الحمد لله على ما يرام. وصلني خطابك، وأهنئك على اختياركم للخدمة بالجهاز الإداري، رغم أنها الوظيفة تقيدكم كثيراً عن مواصلة الدراسة والتحصيل، ولكن مركز لا بد منه، وأتمنى ألا تكون سبب تعطيل لكم، وإلا إذا كان تأخر لفترة معينة، وبعدها عليكم تكييف نفسك وظروفك على المواصلة. أرجو أن تفيدني بمجرد الجهة التي سوف تكون مقركم، وطبعاً التوزيع يكون قد تمَّ فعلاً، ولم تفيدنا، وعلمتُ أن التوزيع يكون للشمالية أو كردفان، وطبعاً إذا وجدت فرصة للشمالية يكون أفضل لكل الظروف. بمجرد تحديد المكان فيدني بمتطلباتك، وسأرسل لك المال اللازم لتشهيلك بأسرع ما يمكن، وإذا كان لا توجد فرصة يمكنك استلام أي مبلغ لتشهيلك من الأخ حسن حسين، وهو هناك بأمدرمان، وسوف أسدده … وقد كتبت إليه خطاب بذلك مع طارق …. أبوك”
انتهي خطاب الوالد.
هكذا كان ولا يزال والدي الحبيب، أمد الله في أيامه، وأمتعه بالصحة والعافية، يهتم بقضية التعليم وتحصيل المعارف، ولسان حاله يردد دائماً عيون الحِكَم من أشعار أبي الطيب المتنبي، وأبي تمام، وأحمد شوقي، فنيل المطالب عنده لا ينجر بالتمني ولكنه يؤخذ غلاباً، وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركاباً. وضعتُ هذا الخطاب الميمون في سلة مستلزمات الملبس والمطالعة، وحملتُ عصا الترحال على العاتق متيمماً شطر الشرق الحبيب، عند سفح جبل التاكا وضريحه الجاذب، وخرير مياه توتيل وخضارها الناعس. وبعد رحلة دامت قرابة عشر ساعات، تنفس بص الشمس المشرقة الصُعداء عند مشارف مدينة كسلا أم التقاق، ذات الجرس الشجي في نفوس كل القادمين إليها من أراضي الشمال؛ لأنها كانت تعج بنفحات الطريقة الميرغنية، وأصوات شباب الختمية الرنانة: “صلوا على بحر الصفا المصطفى صلوا عليه *** وآله والصحب أهل الوفا صلوا عليه”. لا يقف ذكر كسلا عند مآثر السادة المراغنة، بل يتعداها إلى أشعار الغزل العذري، يا آسيا بابورك في الأراك. ويستقيم ميسم الجمال الآسيوي الباذخ وروعة الخِلقة الفاتنة فوق كرامات الأولياء والصالحين، عندما يصل موكب العاشقين الطروب إلى مشارف مدينة كسلا:
لي زيارة كسلا راحن
التكاسي اتبرعن
والخزاين اتفتحن
الضرايح ذاتا رجن
وكان دار يقوم لها سيدي الحسن
آسيا بابورك في الأراك
*******
فور وصولي إلى مدينة كسلا كنت متشوقاً إلى زيارة ذلك الضريح التي وصفه ود الزومة في معلقته الآسيوية، وعندها انتابني شعور مشابه لشعور الدكتور عبد الله علي إبراهيم، الذي وصف الضريح وحواشيه في إحدى زياراته إلي كسلا قائلاً: “خرجت أزور مسجد سيدي الحسن أبو جلابية وضريحه. ولم أتوق حتى كمؤرخ لرؤية المسجد خراباً كما تركته المهدية حين ضيقت على الختمية ليذعنوا لها. وجدته بلا سقف ملقياً في خرابه. ولكنه مع ذلك ناهض كالفرس فوق قوائمه من الأعمدة الكثيرة المهيبة التي تشبه غابة من التبلدي الأشم. ولست أعرف سر احتفاظ الختمية بمسجدهم العتيق على حاله من الخراب؛ ولكنهم أرادوا، أو لم يريدوا جعلوه فينا أثراً لا لبيت عريض من بيوت الله فحسب، بل شاهداً للفجور في الخصومة السودانية التي لا قداسة معها للمعاني أو المباني.”
وفي هذه المدينة الآسرة بدأتُ حياتي العملية بمجلسها البلدي، وتحت رئاسية الإدارية البارعة السيدة زهراء الطيب حمد كوشيه (أصل والدها من قتني)، التي كانت ملمةً بكل صغيرة وكبيرة تحدث في حدود البلدية، فنجدها تحاور السواقين والميكانيكية عن شؤون الورشة وصيانة العربات وآليات المجلس، وتقارع المحاسبين والمراقبين الماليين الحجة بالحجة عن كيفية إعداد الموازنة المالية ومواردها وأوجه صرفها، وتراجع صرفيات المواد التموينية؛ بحق أنها امرأة حديدية، ذات قدرة فائقة، قل أن يوجد مثلها في بنات جيلها. وصحبت في تلك الفترة أيضاً ثلة خيرة من الإداريين، وأذكر منهم: فيصل محمد صالح (حلفا الجديدة)، والعاقب دراج (عطبرة)، وأحمد الضو (الخرطوم بحري)، وإبراهيم عبد الغني (النيل الأزرق). وكان الأمين العام للحكومات المحلية بالإقليم الشرقي آنذاك الإداري محمد أحمد عبد الكريم الذي عمل في مركز مروي في عقد الستينيات من القرن العشرين، وكانت لها علاقاته وذكريات طيبة بأعيان المنطقة وأهاليها.

(3)

بعد إقامة عارضة في مدينة كسلا كانت المحطة الثانية والأخيرة في رحلة البحث عن الذات في أضابير الحكومات المحلية مدينة بورسودان، حيث حظيتُ بالعمل مع عميد الضباط الإداريين المرحوم أحمد بابكر القباني، الذي كان وقتها مديراً تنفيذياً لبلدية بورسودان. فهو إداري من طراز فريد، وعلم لامع في قاموس الحكومات المحلية، لا يخطئه طرف ناظر؛ لأنه اشتهر بتفقهه الواسع في قوانين الحكومات المحلية والقوانين المصاحبة لها، وعُرف بشجاعته النادرة في اتخاذ القرارات الإدارية بدراية ومسؤولية، وبمواقف لا تهاب في الحق لومة لائمٍ. تعلمنا منه الكثير، وغاب عنا الكثير، ونحن في بداية المشوار الإداري المحفوف بمزالق الأبيضين (السكر والدقيق)، تعملنا منه كيف نتمرد على توجيهات الكبار عندما يكونوا صغاراً، لا تصب إجراءاتهم الإدارية في مجرى المصلحة العامة. رحم الله أحمد بابكر القباني بقدر ما قدم لأهل السودان خلال مسيرته الإدارية الطويلة، التي بدأها مساعد ضابط إداري بمجلس ريفي طوكر عام 1964م، ثم ختم ذلك السجل الإداري الحافل بالعطاء مديراً تنفيذياً لمحافظة شيكان بالأبيض في العقد الأول من الألفية الثالثة. رحل قباني عن هذه الدنيا الفانية وهو لا يملك فيها ذهباً وفضةً، ولا مالاً ولا بنوناً، صدقته الجارية تنحدر من منابع سيرته العطرة التي خلَّفها في معظم بقاع السودان التي عمل بها… لا أدري إذا كان السيد قباني قد دوَّن طرفاً من سيرته الذاتية وذكرياته، فهو بكل المقياس كان كاتباً متفرداً، وأديباً لوذعياً، وموسوعةً متحركةً في تاريخ الحركة الوطنية السودانية، ومآثر مدينة أم درمان الأدبية وأنساب أهلها، وأدبيات العمل الإداري في السودان. كان يكتب عشرات الصفحات، ولا يشطب كلمة واحدة إلى أن يوقع اسمه في نهاية التقرير، أو القرار الإداري.
وقبل أن يستقيم ميسم حالنا الإداري في بلدية بورتسودان قرر السيد عثمان الطاهر بابكر، محافظ محافظة البحر الأحمر آنذاك، انتدابنا إلى قاعدة القوات البحرية (فلمنقو)، لتلقي جرعة من التدريبات العسكرية. وكان عددنا إثنا عشر مساعد ضابط إداري من كل مجالس محافظة البحر الأحمر (بورتسودان، والقنب، وطوكر شمال وجنوب، وهيا، ودورديب وسنكات، وحلايب). وبناءً على ذلك التوجيه الإداري العالي حططنا رحالنا بقاعدة القوات البحرية، وبموقع يقال له “رأس الشيطان”. واستقبلنا في موقع التدريب الرائد البدري الريح، والنقيب عبد الرحمن، والرقيب أول عبد العظيم، وبقية الرقباء المساعدين: ود الفكي، والمرضي، وفيصل. وفي أول طابور مساءٍ رسمي طُلب من كل واحد منا أن يحفر حفرة صغيرة، ثم يعيد ردمها، فعلق الرقيب ود الفكي على ذلك الإجراء بقوله: “الآن قد أُقبرت شهاداتكم ودرجاتكم العلمية في هذه الحفرة”، فأنتم مجرد مجندين في الخدمة العسكرية، تخضعوا للأوامر العسكرية وتنفذونها بحذافيرها، دون “سين وجيم”… صفا … انتباه … انصراف… هكذا بدأ يومنا الأول في القوات البحرية، وأتى إلينا الصباح الباكر بأبواق إنذاره المزعجة، وأصبح حالنا في ذلك المنفي العسكري أشبه بحال الزبير باشا ود رحمة في منفاه بجبل طارق في الأندلس، حيث أنشد قائلاً:
بعد الأهل والونسة *** وبعد العز والحرسه
بعد انتظام العساكر المؤسسة *** وبعد فرسان تفشّ المغصة
انقلب الدهر وانعكسا *** بحبس الزبير في الأندلسه
يا رب يا خالق الكون يا مؤسسه *** عجّل بالفرج قبل القسا
نرجع ونشوف عزاً مؤسسا *** من فضلك يا كريم لا ينقصا

بهذه الكيفية كان محبس التدريب بقاعدة القوات البحرية محبساً عصياً، لأناس مدنيين من أمثالنا؛ بَيْد أنه كان حافلاً بالطُرف، والذكريات الجميلة التي لا تزال تكنزها ذواكرنا التي بدأت عليها آثار الشيخوخة الباكرة. تعلمنا نظرياً في القوات البحرية أن البندقية تتكون من دبشق وماسورة، وعملياً تعلمنا فك وتركيب البندقية ونظافتها، وميداناً ضربنا الذخيرة الحية على شواطئ البحر الأحمر، وسمعنا صدى أصوات الشيطان (حمد تيتي) تردد الأمر خلف مُعلمنا الجبِّار الذي يعاقب على الهفوة وعدم الهفوة: واقفاً عَمِّر … جالساً عَمِّر… راقداً عَمِّر… أضرب في الضروة. ومن الشدائد التي أذكرها في تلك الأثناء قسوة مُعلم الرياضة، الذي كان يُقظنا فجراً، ويقودنا هرولة لمسافة طويلة في فيافي رأس الشيطان وأرضه المالحة، وعندما يشعر بأن روح التمرد قد بدأت تدب في أوساطنا، ينشد أرجوزته المعهودة، ونحن جند السلطان نردد معه:
الزول زعلان كلموا
يمشي الخزان كلموا
الخزان كان بعيد
النسيان في الطريق

وكانت هذه الأرجوزة تذكرني دائماً بقصيدة الشاعر المصري علي محمود طه المهندس، والتي تقول في بعض مقاطعها:
البحر خلفي والعدو ازائي *** ضاع الطريق إلى السفين ورائي
وتلفتوا فإذا الخضم سحابة *** حمراء مطبقة على الأرجاء
قد أحرق الربان كل سفينة *** من خلفهم إلا شراع رجاء

لكن شتان بين حال المجندين في رأس الشيطان وجند طارق بن زياد، وهم يتأهبون إلى فتح الأندلس، لكن الشيء الذي يجمع بيننا هو وحدة الهدف، فكان هَمَّ أولئك الجند الأشاوس الانتصار وفتح الأندلس، وكان شأننا المتواضع التخارج (وليس التخرج) من جبروت القوات البحرية المرير، والعودة إلى حياة الدعة بمجالس محافظة البحر الأحمر، وزهو شارات الإداريين الصفراء، وزيهم الكاكي المميز، وفوق هذا وذاك التوقيع على تصاديق المواد التموينية، وإدارة الأسواق المحلية بخيرها وشرها، بعيداً عن حياة الضبط والربط، وأوامر الصفا والانتباه والانصراف، وعقوبات الإدارة الداخلية للذين يخالفون أوامر الجند، أو يتآمرون عليهم. عُدنا إلى مجالسنا، وروتين العمل الإداري في نوفمبر 1987م، والعود أحمد.
عدتُ بصحبة الأخوين جونسون شوكا نيشاك (الاستوائية) وصديق جمعة باب الخير (نيالا) إلى العمل في بلدية بورتسودان، ووقتها كان معظم الطاقم الإداري في البلدية من أبناء منطقة مروي الكبرى، مفتش الصحة العامة ميرغني محمد عبد الله أو عبدون (قنتي)، ومفتش الحكومات المحلية علي مدني الناطق (نوري)، ومفتش الحكومات المحلية هاشم عبد الرحيم (تنقسي)، والضابط الإداري محمد علي عبد المجيد (مقاشي)، والباشكاتب عبد الحفيظ (تنقسي)، ونائب الباشا كاتب صلاح الرشيد (مقاشي)، والأخت سلوي (مقاشي)، ورئيس مكتب الرخص مصطفي وداعة (الغريبة). انتقيتُ هذه أسماء لذكر طُرفة وقعت حينذاك، حيث كان صيف بورتسودان غائظاً، حضر إلى البلدية أحد زعماء قبيلة الشايب صاحبة الأرض، وطلب من الضابط الإداري علي مدني التصادق له بجوال سكر ودقيق، أو أحد الأبيضين، فرفض السيد علي مدني الطلب، لحجة يعلمها؛ فأعاد الشيخ الكَرة على الضابط هاشم عبد الرحيم، الذي رد الطلب على أعقابه، وأخيراً لجأ الشيخ الوقور إلى الضابط محمد علي عبد المجيد الذي لم يكن رده أفضل من صاحبيه. وفي ضوء تلك الردود المحبطة، وقف صاحبنا في وسط بهو مجلس بلدية بورتسودان، وعبَّر عن جام غضبه، قائلا: “بالله عليكم دا بلدية بتاعة بورتسودان، والله بلدية بتاعة مروي.” أي بمعني آخر أن العاملين في البلدية ليست لهم علاقة بالمنطقة، بل هم “بلويت” دخلاء على أراضي أوشيك، وأدروب، وأوهاج، ومصالحهم مربوطة بالمناطق التي قدموا منها، وإن الوظيفة هي التي وضعتهم على رقاب أهل البلاد والعباد في أراضي البحر الأحمر التي يتسع البون بينها ومناطق أولئك القادمين من النيل (البحر). ومن وجهة نظر هذا الشيخ وبعض أقرانه أن المستعمر البريطاني خرج من السودان بخيره وشره في عقد الخمسينيات، ثم جاءهم الاستعمار “البلويتي” في ثوب آخر، أقل عدلاً، وأدني كفاءة، مقارنة مع أصحاب العيون الخضر والشعور الشقراء.
تكمن في هذا الرد العفوي الموجز أحد مظاهر الصراع في السودان: الحضر والريف، والمركز والهامش، وأولاد البحر وأولاد العرب، والشمال والجنوب، والأفندية وأهل البلد، وأهل السافل والصعيد، وفوق هذا وذاك العصبية المنتنة التي يجسدها قول بعضهم: “أولَئِكَ آبائي فَجِئني بِمِثلِهِم. إِذا جَمَعَتنا يا جَريرُ المَجامِعُ”. لا جدال في أن مثل هذا الرد العفوي يواجهنا في سائر مسارات حياتنا اليومية، ويعكِّر صفوها أحياناً، لكن يجب أن نمعن السمع فيه ونحكِّم العقل، ونربط مثل هذه التعليقات العفوية بقضية الهُوية السودانية، التي تعاني في رهق هذه الثنائيات، وإسقاطاتها المطففة لكيل السودان ونموه. ونأمل أن مثل هذه الملاحظات العابرة تجد آذاناً صاغيةً من الحادبين الذين يهمهم إصلاح شأن الوطن الجريح والنهوض به، بعيداً عن إيماءات الأعراق الرجسة، وكيل المطففين الباخس لوحدة السودان في إطار تنوعه الإثني والثقافي والديني.

(4)
رحيق الأمكنة:
ذكرياتي في بورتسودان (1987-1989م)
ميرغني عبدون إنسان نادر على طريقته!!!
فور وصولي إلى مدينة بورتسودان زارني العم ميرغني عبدون، الذي كان يعمل مفتشاً للصحة ببلدية بورتسودان بميس (ميز) الإداريين، واقترح عليَّ زيارة الأهل والأقرباء من أبناء منطقة قنتي ببورتسودان، أولاد علي حامد (قنتي، السيال)، وأولاد محجوب بادي (قنتي، حي السوق) والجد حضر المكي (الكلد)، والسني إبراهيم ود السيد (قنتي)، ومحمود عبد القادر حاج أحمد (قنتي، المشاويين)، وعطا المنان محمد عطا المنان (الكلد)، وحسن علي الزين (أرتموقة)، وبابكر عثمان عيسى (قنتي، القوز) وحسن الرشيد محمد خير (قتني، حي السوق)، وعبد اللطيف أبوروب (فقرنكتي)، وعثمان خالد (الكلد)، وعوض عبيد (قتني، حصاية العمدة)، وعبد الله محمد صالح عثمان (قنتي، المشاويين)، والفاضل علي عبد الوهاب (قنتي، الساب) وأولاد صالح علقة (قنتي، القولداب)، وميرغني عبد الله نكولا (قنتي، الميرفاب)، وعلي المكي (قنتي، الموسواب) وشخصيات أخرى سقطت أسماؤهم سهواً، فأرجو منها عذراً وصفحاً.
هكذا كان مدخل العم ميرغني عبدون إلى الحياة الاجتماعية، يقوم على صلة الرحم والوفاء للصداقات، لأنه كان يستبطن في سويداء فؤاده قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “تعلَّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم، فإن صِلَة الرحم: مَحَبَّة في الأهل، مَثْرَاة في المال، مَنْسَأة في الأثر.” ويعتبرها أيضاً من إمارات كرم النفس، وسعة الأفق، وطيب المنبت، وحسن الوفاء. لذلك كان يعتقد جازماً بأن من لم يصلح لأهله، لا يصلح لغيرهم. وإنَّ الخطوة الأولى التي تبرهن صلاح الإنسان لأهله هي صلة الرحم التي يحسبها العم ميرغني مدعاةً لرفعة العلاقة النسبية، وترياقاً لدفع العداوة والبغضاء، واشهاراً للمحبة بين الأقربين، بها تتعاظم السعادة الإنسانية ويتضاعف الرزق. لذلك درج هذا الراحل النبيل على زيارة أرحامه وأصدقائه من غير جرد لفاتورة الزيارات المتبادلة؛ لأنه لا يلوم الآخرين، لا يعرف اللوم إلى قلبه سبيلاً. وقد شكل هذا الجانب الإنساني جزءاً مهماً من شخصيته النادرة على طريقتها، التي قل أن تجد لها نظيراً في زماننا الحاضر.
وكذلك كان يؤمن إيماناً قاطعاً بأن العطاء مثل صلة الرحم يضاعف الرزق؛ ومن ثم فكانت أياديه ندية على أرحامه، وطرية على أصدقائه، ومبسوطة للمحتاجين بشتى ضروبهم الاجتماعية. ولا أنسى له موقفاً عجيباً، كنت أحد شهود عيانه، يوم أن طرق أحد العاملين في بلدية بورتسودان على باب منزله بحي العظمة، في نهار قائظ، وأفاده بأنه زوجته في حالة مخاض، ويحتاج لمبلغ من المال لشراء مروحة سقف. فبحث العم ميرغني في محفظته، ولم يجد فيها المبلغ الكافي لشراء المروحة، فماذا فعل؟ من دون استشارة أو استئذان أخذ مروحة الطربيزة (المنضدة) الصغيرة التي كانت تدور بصوت خافت، موزعة الهواء البارد أمام زوجته الجدة فاطمة محمد خليفة، فأعطاها إلى الأخ كوهين. وعندما علمت فاطمة بمصير المروحة المسكينة، احتجت على ذلك العطاء الناقص لأثاث البيت، فرد عليها بقوله: “تكفيك مروحة سقف واحدة”، فالأخرى أولى بها امرأة تعاني آلام المخاض، وزوجها لا يملك إلا الضروري من المعاش. تأمل!
أما الخَصِيصَةُ الثالثة المايزة لهذا الرجل الفريد فكانت تتجسد في جرأة المواقف، وإسداء النصح عند الشدائد، وعدم مهابة الحق في وجه الحاكمين. وأذكر عندما عُين الفريق معاش عثمان فقراي محافظاً لمحافظة بالبحر الأحمر، دعا رهطاً من كبار الإداريين بالمحافظة؛ لإسداء النصح والإرشاد والتبريكات بالوظيفة الجديدة. فكانت كلمات الحضور تدور حول كفاءة المحافظ الجديد، وتطلعات الجماهير إلى قراراته الحاسمة لمواجهة كثير من القضايا التي تهم سكان محافظة البحر الأحمر. ولم يخرج عن نسق هذه الخطب الإطرائية إلا قول مفتش الصحة ميرغني محمد عبد الله (عبدون) الذي أوصى المحافظ بأن يكون أكثر احتكاك بالجماهير، ليعرف قضاياهم عن قرب، بعيداً عن بطانة السوء التي تزين الواقع الكئيب بأنه انجاز غير مسبوقٍ. ثم سرَّ إليه بأن الحاكم الذي يبتعد عن سواد الناس ويترفَّع عن سماع قضاياهم، يكون شأن مثل الذي يقف على قمة جبل، فيستصغر قضايا الناس ومشكلاتهم، ويستخف بوجودهم المحسوس، ويراه الآخرون الذين يقفون عند سفح الجبل بمنظار الاستصغار نفسه؛ لأن فاعلية الحاكم الوظيفية موثوقة بطول المسافة الجامعة بينه والمحكمين. ولاجدال في أن مثل هذا التهميش هو الذي قاد إلى معظم مشكلات السودان الآنية، التي جسدت قصيدة “الجابرية تحيي الدبة .. داير بسطة ومدرسة وسطى”، للشاعر محمد الحسن سالم (حميد)، طرفاً منها، بصوت خطابها الساخر: “من الله خلقنا … وشفنا خلقنا *** دا أول ريس زاتو يجينا”. وهنا تتجلى القواسم المشتركة بين نصيحة العم ميرغني المباشرة وانتقادات حميد الرمزية لسلوك الحاكمين المتعالي عن قضايا الناس، دون أن يدرك أولئك المتعالون بأنَّ فلاحهم وصلاحهم مرهون بشفافية عطائهم الخدمي المنبسط للناس أجمعين، وبوضوح رؤيتهم الاستراتيجية تجاه الشأن العام، وفق برامج إصلاحية تسعى إلى النهوض بقيمة الفرد الذي كرَّمه ربه، والجماعة الناظمة لشمله عبر مؤسسات حكم راشد.
وإذا انتقلنا بذائقتنا التاريخية من الخصائص العامة إلى الشأن الخاص، فعلاقتي مع العم ميرغني عبدون لها لون، وطعم، ورائحة. إذ أنها بدأت بمبادرته الكريمة، عندما أصرَّ عليَّ أن أرحل من ميس الإداريين العتيق في وسط مدينة بورتسودان، وأسكن معه في منزله الحكومي بحي العظمة، في رعاية زوجته الفاضلة (الجدة) فاطمة محمد خليفة (أو فاطمة علَّجابي)، ورفقة أخواتي الفاضلات نازك، وناهد، وندى، وكوثر، وزينب، وطلل المولودة لاحقاً في الخرطوم، وأخوي نذير ونزار. وبهذا الانتقال الجغرافي والإحساس القرابي الصادق تمكنتُ من معرفة العم ميرغني عن قرب وكثب. وأصدقكم القول يا هؤلاء، بأن الراحل النبيل كان إنساناً نادراً على طرقته، يمتاز بصدق نية عجيب، وصفاء طوية نادر، يتجليان في علاقاته المميزة مع أهله وعشريته الأقربين، وصداقاته الممتدة عبر حقب الزمان وفضاءات المكان. فكانت تلك العلاقات والصداقات تتجاوز الحواجز العمرية والجندرية، وتسقط عندها أقنعة التكلف، وينتقل الحديث والأنس في حضرة مجالسها بين العام والخاص، وبين القضايا المفرحة والمشكلات المبرحة في سلاسة ويسر. ولذلك لم يكن العم ميرغني “قشة في مهب الريح”، بل كان إنساناً له مواقفه المرتبطة بجرس الأرض التي ينتمي إليها، وعزة أهله الطيِّبين نواحي السافل، الذين بادلوه حباً بحبٍ، دون رياء أو تكلف؛ لأنه كان لا يعاديهم، ولا يحاسبهم، ولا يلومهم، بل يصلهم في منازلهم ويبر أرحامهم.
ظلت صلتي وثيقة بالعم ميرغني بعد أن غادرتُ مدينة بورتسودان إلى مدينة بيرقن النرويجية في العام 1989م، وبالرغم من سعة البون المكاني بين المرقدين كان الفقيد يتواصل معي بانتظام عبر خطاباته الإخوانية الرائعة التي تشكل بُعداً آخر من شخصيته النادرة، واتصالاته الهاتفية إذا دعا الأمر إلى ذلك. وأسمحوا لي يا سادتي! أن أنقل إليكم اقتباساً من خطاب بعثه في 28 نوفمبر 1996م: “الأسرة هنا على ما يرام، لا زال النذير بشركة الكولا كولا، ونازك بشركة عزة، ونزار بين الجامعة والعمل الصباحي في إحدى شركات الزيوت، وناهد تصارع المواصلات وعنت الدراسة بالجامعة بالخرطوم (جامعة جوبا)، وندى كابن بطوطة بين جامعة الجزيرة وأهلها بالخرطوم، وكوثر مثابرة هذه الأيام لتنال القبول في الشهادة السودانية والقبول المرضى في الجامعات بشهادة تسرنا جميعاً، والصغيرة زينب (الشجرة الخضراء) كما تسمي نفسها باللغة العربية، وطلل (الأرض المبتلة) في السلالم الأولى من مرحلة الأساس، الصف الثاني والأول حسب الترتيب. أما جدتكم فاطمة وحرمنا المصون فهي بخير، تقاوم ونحن نحمد لها هذه الروحة المعنوية العالية.” ويمضي العم ميرغني في الاتجاه ذاته، ويقول: “والدك وأخوتك بصحة كاملة، والبلد يومياً ترد منها الأخبار … بس محصول البلح السنة دي تعبان كماً ونوعاً، ومتوقعين وصول عزيزنا وصديقنا العمدة خلال هذه الأيام، لأن صديقه عبد الغفار محمد صالح قد أجرى عملية جراحية كبيرة، استأصل جزءاً من معدته، ولا زال طريح المستشفى… الابن أحمد كيف أخبار قريبك د. عبد الباقي حسن، لعله بخير وعافية، فوالدته وأخته بصحة كاملة. كما أن أولاد عمك أحمد بعطبرة على أحسن حال، وقد انتهى الابن زهير من الجامعة هذا العام، وفي انتظار الشهادة التي نتمنى من الله أن تكون مشرِّفة… والدتك زينب محمود على أحسن حال، وخالاتك وأنجالهن وأزواجهن على أحسن حال، وأعمامك جميعاً على ما ينبقي… وكل عماتك كويسات جداً … وقد رزق البوليس عبد الحكيم بباكورة انتاجه.. أخبار البلد الأخرى عادية؛ إلا من الوفيات… توفي قبل أسبوع عمك عبد الغفار ميرغني سيدأحمد وبدوي ساب الليل في حادث حركة أليم في طريقهم من المناقل إلى الخرطوم .. وطبعاً سمعت وفاة أحمد ولد جعفر كور، توفي أيضاً في حادث مؤلم بين أمدرمان والقبولاب.”
هكذا كانت خطابات العم ميرغني الإخوانية قبل عقدين من الزمان، وقبل أن تحل وسائط التواصل الإلكترونية (الواتساب والفيس بك) محلّ الجوابات الخاصة، التي كان لها وقع فريد في النفوس المرسلة إليهم؛ لأنها كانت ذات نقهة مميزة، بشمول عرضها، وجزالة لغتها، ومشاهدها المتعددة. ومن أصدق شواهدها التراثية جواب شاعرة مقاشي فاطمة بت ود خير:

رسلت السلام يغريك يالزين
السلام ليك وللمعاك في الأوضة قاعدين
السلام من عين شمس لاحد فلسطين
عاد أنا ما بوصفك آ صباحى بخاف من العين
من عين الخلوق مودعاك جبرين
أنت بالعافي التخصك في المصارين
تبقالك هدم سروال ونعلين
دايري اشكيلو العذر صمد النمرتين
وأنت آ سيد الجزيري التكاكي وزين
يا سيد الشال تقيل فدع العراجين
أنت في تلات سنه ما بدوك سبوعين
وما بترسل لي جواباً فيه سطرين
وما بتقول لي نعيم صباح أمو اشتغل وين
أنت ماك عارف قليباً لي مجينين
وماك عارف جواب الخير يجيني وازيد لي شبرين
انبسط لي انبساطي زايدي على القوانين

بهذه الأريحية كانت جواباتهم، وبهذا العمق كانت خطابات العم ميرغني، تحمل بين طياتها الأخبار المفرحة والمحزنة، لكن الأهم أنها تعطي صورة بانورامية عن المشهد الحياتي في السودان وشأنه الخاص، وتدع المرسل إليه يقرأها مثنى وثلاث ورباع؛ لأنها تخفف عنه عناء الاغتراب، وتربط له الغائب بالحاضر في وطنه الأصل. مضى على الخطاب الذي نقلتُ إليكم جزءاً من فقراته عقدان من الزمان، حيث تبدلت الأحوال، وتغيرت المشاهد على المستويين العام والخاص، بعد رحيل العم ميرغني الفاجع والمفاجئ بسبب حادث حركة مؤلم، وهو في طريقه من قنتي إلى الخرطوم في العام 2008م. لكن دون الدخول في تفاصيل الشأن الخاص ومتغيراته، فيكفي العم ميرغني فخراً بأن آخر ذراريه طلل، قد تخرجت طبيبة بامتياز من كلية الطب، جامعة الأحفاد للبنات، وتعمل الآن في إحدى مستشفيات الخرطوم. حقاً، رحم الله العم ميرغني، فقد كان إنساناً رسالياً، بقدر ما تحمل الكلمة من معنى؛ لأنه كان يسعى دائماً لتأسيس مدينة فاضلة في أرض السودان، التي أحبها وتعتَّق بتراث أهلها الطيبين، ويأمل أن يكون شعار تلك المدينة الفاضلة المحبة بين الناس، والتواصل بين الأرحام؛ لأن صلة الرحم في عرفه تضاعف الأجر وتبارك الرزق.

مقالات ذات صلة