في رقعة الشطرنج السياسية التي تمتد من تشاد إلى السودان، ومن مصر إلى الإمارات، تتشابك المصالح، وتتداخل الأجندات، ويُعاد رسم معادلات القوة. في قلب هذه التوترات، انفجرت فضيحة دبلوماسية في تشاد، حيث وُجهت اتهامات لوزير الخارجية السابق، عبد الرحمن غلام الله، بتسريب رسالة سرية من رئيس الجمهورية إلى الجانب المصري، ثم إرسالها إلى الإمارات، الدولة التي تسعى إلى عرقلة أي تقارب بين تشاد وحكومة الخرطوم. هذه الخطوة—إن صحت—ليست مجرد خيانة عظمى، بل تعكس مدى قدرة أبوظبي على اختراق دوائر صنع القرار السياسي في الدول الأفريقية، وهو أمرٌ لم يعد مفاجئًا بالنظر إلى النفوذ المتصاعد للإمارات في القارة.
القضية، التي تفجرت بعد تسريب رسالة سرية موجهة من الرئاسة التشادية إلى الجانب المصري، وزُعم أن وزير الخارجية السابق قام بفتحها وتصويرها ثم إرسالها إلى الإمارات، تأتي في سياق صراع النفوذ بين القوى المتداخلة في الأزمة السودانية. فالإمارات، التي تتهم بدعم ميليشيا الدعم السريع في السودان، لا ترغب في أي تقارب بين تشاد وحكومة الخرطوم، مما يفسر—إن صحت الادعاءات—اهتمامها بالمراسلات الدبلوماسية بين البلدين.
من طرف آخر ، غلام الله، الذي أقيل قبل أيام، رد على هذه الاتهامات واصفًا إياها بـ”السخيفة وغير المسؤولة”، معتبرًا أن الدبلوماسية التشادية تعمل وفق إجراءات صارمة تضمن سرية المراسلات، وأنه من غير المنطقي توجيه مثل هذه الادعاءات إليه. لكن بغض النظر عن مدى صحة الاتهامات أو نفيها، فإن مجرد تداول القضية بهذا الشكل يشير إلى وجود تحولات جذرية في السياسة الخارجية التشادية، وربما تمهيد لإعادة التموضع في ظل تصاعد التنافس الإقليمي على النفوذ في منطقة الساحل، والنأي عن الحرب السودانية.
هذا الحدث يسلط الضوء على معضلة أكبر طالما عانت منها أفريقيا: هشاشة الأجهزة الأمنية وضعف آليات حماية المعلومات الحساسة داخل الأنظمة الحاكمة. لا يزال العديد من المسؤولين في القارة يتعاملون مع دولهم وكأنها تجمعات قبلية، حيث الولاءات الشخصية والارتباطات الخارجية تتغلب على مفهوم الدولة الحديثة. هذه المشكلة ليست جديدة، إذ تكررت عبر التاريخ، ولعلّ أبرز مثال على ذلك ما حدث في الكاميرون عام 2003، عندما اكتشف الرئيس بول بيا أن تفاصيل اجتماعات مجلس وزرائه تصل إلى فرنسا قبل حتى انتهاء الجلسة، بسبب وزراء ينقلون كل ما يدور في الغرف المغلقة إلى باريس. لم يكن أمام بيا سوى إلغاء الاجتماعات الرسمية لسنوات والعمل بصمت على تصفية الحكومة من الجواسيس.
نفس السيناريو حدث في الجزائر خلال حربها ضد فرنسا، حيث كان الطابور الخامس من “الفرانكوفيل” و”البربوز” أكثر ضررًا على المقاومة من الجيش الفرنسي نفسه، إذ لعبوا دورًا رئيسيًا في تزويد المحتل بالمعلومات الحيوية. الأمر نفسه حصل في مصر، حيث كشف كتاب “الجواسيس والأمن”، الواقع في 12 مجلدًا، أن الموساد لم يخترق الدولة المصرية مباشرةً، بل عبر ضباط وسياسيين كانوا يشغلون مناصب قيادية رفيعة. هذا النمط من الاختراقات الأمنية لم يتوقف، بل تطور بأساليب أكثر تعقيدًا،
ويكفي أن ننظر إلى القارة الأفريقية اليوم لندرك أنها تظل البيئة الأكثر هشاشةً للاختراق الأمني وهي حقيقة تؤكدها كل التقارير المتخصصة. من شمال القارة إلى جنوبها، يظل هذا الضعف المؤسساتي أبرز العوامل التي جعلت أفريقيا، حتى اليوم، القارة الأكثر عرضةً للاختراق الاستخباراتي، وهو أمر يستدعي وقفة جادة، لأن التحديات القادمة ستكون أخطر وأعقد.
أما على مستوى التوازنات الإقليمية، فإن هذا الحدث، بغض النظر عن مدى صحته، يعكس رغبةً واضحة في إعادة ترتيب الأولويات في السياسة الخارجية التشادية، خصوصًا مع تزايد الحديث عن تقارب مصري-تركي-سوداني في ملف الحرب السودانية، ودخول تركيا على خط إعادة التموضع في تشاد، بعد طرد القوات الفرنسية من قاعدة أبشة، التي كانت ثاني أكبر قاعدة عسكرية لباريس في أفريقيا. هذا التقاطع بين هذه القوى لا يمكن فهمه بمعزل عن المتغيرات الكبرى التي تعصف بالمنطقة.
لكن وسط كل هذا، هناك نقطة تستحق التأمل، وهي ذلك الاستخفاف الساذج الذي يردده البعض عن دولة الإمارات باعتبارها “دولة صغيرة”، وكأن الدول تُقاس بمساحتها لا بقدرتها على اختراق مراكز القرار. هل يدرك هؤلاء مدى النفوذ الذي اكتسبته أبوظبي داخل الدوائر السياسية والأمنية الأفريقية؟ هل يتخيلون أن وزيرًا في دولة بحجم تشاد قد يُتهم بتسريب معلومات حساسة إليها؟ إن صحّت هذه الاتهامات، فإن هذا مؤشر خطير على مدى تغلغل الإمارات في القارة، ويدفعني للقول، دون تردد، إن أبوظبي بصدد أن تصبح الوريث الجديد لفرنسا في أفريقيا، لكن بأدوات أشد دهاءً، وأكثر فاعلية، وأقل ضجيجًا.
وهذا، في حد ذاته، ملف يستحق فتحه بالأدلة والأرقام، أعمل عليه حاليًا؛ من إريتريا السودان، إثيوبيا، مرورا بالصومال إلى موريتانيا حتى في جزر المحيط الهادئ، لأن القادم قد يكون أكثر إثارة، وأكثر خطورة مما يتخيله كثيرون.
▪️في التتمة، أذكّر بأنّ السذاجة رقم 1 في الدراسات الاستراتيجية هي: الاستخفاف بالخصوم!
أو بعبارةٍ أفصح: لا شيء أكثر سذاجةً في الاستراتيجيا من الاستهانة بالخصوم!