*حكاية زول (3) سيده بابا _ [ 1900 / 1982م ] علوا في الحياة وفي الَممات..أحمد محمد مكاوي الشيخ ام درمان /٢٢ مايو ٢٠٢١ م*

وحكاية اليوم عن امرأة اسطوره وقصة من الكفاح تستحق أن تروي للأجيال امرأة بقيمة عشرة رجال مما تعدون كريمه وعصامية لا نظير لها فأصبحت أيقونة القرية ومضرب المثل في التضحية والآيثار احبها حتى الغرباء الذين وفدوا إلى القرية في ذلك الزمن كانت علامة فارقه وقمرا ضواي في سماء القرية وقد ساعدني في تسليط الضوء على تلك السيده حفيدها وصديقي َمحمد عثمان احميدي فله مني كل الشكر والتقدير على صبره فقد اتعبته كثيرا بعد أن وقع اختياري للرمز سيده بابا لتكون أول امرأه من ضمن سلسلة حكاية زول التي احكي فيها نتفا من سيرة بعض أبناء البلد الذين امتدت أياديهم البيضاء وهي تنضح بالعطاء للأهل وللوطن حيث كانوا قدوة وذكرى جميله ولقد رأيت من الواجب أن أعرض سيرهم ليترحم عليهم الناس إذا كانوا في عالم الأموات ويغتدي بهم إذا كانوا أحياء يرزقون… وقد يتردد سؤال من البعض حتى وإن كان من الدواخل.. لماذا سيده بابا مختارة من النساء دون غيرها ؟ وعليه اقول لانها تمثل رمزا لكفاح الحبوبات والأمهات الان وفي زمن قد مضى… هكذا قد رأيتها ومدتها …
ولمن جايلني من الاخوة في سبعينيات القرن الماضي اقول… من منكم لا يعرف سيده بابا ؟
سيده بابا اسم له إيقاع
هكذا كانت تناديها القرية اما اسمها كاملا فهي…
سيده محمد عيسى بشاره
ووالدتها هي فاطمه حمد ابو سوار ويطلق عليها (فاطمه بابا) أو حبوبه بابا كما يحب احفادها أن ينادونها
خالها هو السيد حمد ابو سوار والد أحمد السيد حمد المحامي والقيادي بالحزب الاتحادي الشهير وزير المواصلات السلكية واللاسلكية في عهد حكومة جعفر نميري..
تنتمي سيده بابا إلى أسرة العيساب الكبيره إذا فهي في الحسبة جدتي من ناحية والدتي…
أشقائها وشقيقاتها هم…
عبد الله بابا والد اسيا وأسماء فاطمه وجمال..
وعائشه ولم ترزق يذريه..
وزينب والدة عثمان وحسن احميدي.. ومسكه اليمن وهي والدة الصادق وعثمان وفاطمه الفكي زوجة حسن الحميدي…_____
ولدت سيده بابا في العام ١٩٠٠م تقريبا في حلة ود أرباب حيث لا توجد شهادت موثقه تدون في ذلك الزمن فقط يقولون فلان ولد عام التساب (الفيضان) أو عام الجراد أو يوم ان مات الزعيم الفلاني أو يوم ان زار البلد هكذا كان يؤرخ للأحياء يوم مولدهم… ولدت في بيت متواضع من بيوت الطين كسائر بيوت البلد في ذلك الزمن ثم انتقلت للسكن في حصاية العمده بعد أن دمر فيضان العام ١٩٤٦م حلة ود أرباب جاورت العمده محمد أحمد أبو شوك وابن عمها البشير عيسى وعبد الغني الله جابو والشيخ مصطفى ود السيد وخلف الله موسى وكانت نعم الجار.. كانت امرأة قويه حادة الذكاء والفراسه ولها شخصية مهابه
عملت منذ صغرها في الزراعة كما يعمل الرجال وقد ورثت من ابوها قطعة أرض بمساحة فدان في الساقيه رقم (٧٥) قسم الشرقيه وقطعه على جرف الساقيه نفسها وأخرى في الأراضي الميري وكانت ترعى أرضها وتحصدها وترعي اغنامها وتحلبها كانت قوية صابره تراها تعمل في غبشة الفجر أو منتصف النهار متكئة على معولها أو حاملة منجلها تجمع الحشيش لاغنامها او تنقح الأرض وتقطع الاشجار عامله صابره
وكانت ترتدي سروالا طويلا وجلابيه تكاد تلامس الأرض كما الرجال تلف عمامة فوق رأسها وتستر بالباقي جسدها تعمل بصبر دون كلل.. عاشت طول عمرها عاملة لغيرها وقد كان إن تزوج شقيقها عبد الله بابا بالحرم سعيد النور من كورتي وأنجبت له أسماء وآسيا ولكنها توفيت وتركت أسماء فكان عمرها خمس سنوات فكفلتهما وقامت بتربيتهن كأحسن ما يكون و هبت لهن كل سنوات عمرها وأرضها وزرعها…
قبل وفاتها بسنوات ذهبت إلى العمده َمحمد أحمد ابوشوك داخل المحكمه حيث وهبت لهن كل أرضها قالتها بصوت جمهوري وجرى أسمعت به كل من كان بالمحكمه وكتبها المرحوم عبيد ريحان بخط واضح وختمها بختم المحكمة الشرعية بالدبه ( انا سيده محمد عيسى بشاره أقف أمامكم وانا بكامل عقلي قد وهبت كل ما أملك من شجرة أو عشره أو أرض بور لبنات اخي اسيا وأسماء عبد الله وأشهد الله واشهدكم على ذلك على أن يكون لي حق الانتفاع بها حتى َمماتي بإذن الله) وقد كان تصرف نادر في حالة نادره طوتها سجلات المحكمة الشرعية بالدبه…
عملت سيده بابا بالتجاره وكانت تتردد في الأسبوع بين ثلاث مواقع هي…
سوق الأحد الأسبوعي ومحطة الباخرة عند ساقية ود أرباب أو غرب مدرسة قنتي الأولية للبنات في صباحات ايام الدراسة تبيع للتلاميذ الزلابية والترمس والجرم… ويوم سوق الأحد تنهض باكرا بعد أن تجهز بضاعتها قبل شروق الشمس وتقطع الفضاء الواقع بين حصاية العمده وسوق الأحد على مهل تحمل قفتها الكبيرة فوق رأسها عامرة بما لذ وطاب مكررة ثوبها على رأسها لوقايته من الحمل الزائد تسير بتمهل بين نباتات التشق وأشجار العشر محاذيه القلعة ام بلينا الأسطورية التي كان يهابها الرجال خوفا من سطوة الجن كما كان يعتقد في ذلك الزمن وكان مرورها يوما دون خوف حتى تدخل السوق وتبدأ في عملية البيع داخل راكوبتها التي تتوسط السوق ومن ثم تعود الي بيتها قبل المغيب بنفس الطريق الذي أتت به …
لم تكن سيده بابا تاجرة تقليدي تبقى الأرباح فقط وإنما كانت تتقي الله في بيعها وشرائها تطلب البركة والأجر والثواب وعندما كتب الشاعر خالد شقوري قصيدته (حبوبه) كأنما كان يعنيها هي
ويتكلم عن سيده بابا

يا حليل حبوبه قبال الهجاير
بي قفيفتا مارقي
في الفجاج تهاجر
رغم أنها جالبي
لكن ما بتتاجر
والبطان الطلبه ضاربين فوقا غلبه
وللزلابيه يختفوا لكن بالها سلبه
وبالبسيمه الضواي
تنده الله ياجر

هذه هي سيده بابا علوا في الحياة وفي الممات..
كنت انا ورفقتي ننتظرها بصبر جميل لنشتري منها الزلابية بحجمها الكبير وطعمها الجميل ورائحتها المميزه وبواقع اربعة قطع َتشبع الجائع بقيمه تعريفه ومن لا يملك الثمن لا ترده ولا يرجع بجوعته وكان البعض يستلف منها وان أعاد مره اخرى ولم يسدد ما عليه كانت لا تمنعه وتجرحه بسؤاله عن حقها…
لله درك من حبوبه فقد كنت كالنسمه والبلسم الشافي سحابة ماطرة بالخير تهبين الفرح والسعاده للصبية وكل الناس…
عندما تصل الحاجه سيده بابا إلى محطة الباخرة لجلب بضاعتها كان كل العاملين بمختلف البواخر يعرفونها عندما تقترب الباخره من المحطه ينادونها بصوت كورالي مسموع وهم يصفقونرويغنون لها
سيده بابا
سيده بابا
الله جابا
يشترون منها الزلابية والتسالي والسمن البلدي كانت امرأة كريمه تهتم بالمعلمات الوافدات وتزورهن في مكان سكنهن ترسل السمن والبلح وهي تقول
(عشان ماتمشن لاهلكن أيديكم فاضيه) واستمرت علاقة المعلمات الوافدات بها حتى بعد أن تم نقلهم خارج قنتي وقد ذكرت الاستاذه بخيته عبد الله من بنات حي الركابيه الأمد ماني ذلك عندما حضرت لعزاء سيده بابا في منزل ابن اختها بالثوره الحاره الرابعه بعد أن تم إذاعة خبر وفاتها في نشرة السادسه والنصف وبكتها بكل حرقه…
استمرت حياة حبوبه سيده بابا بهذا الكفاح والجمال وكان بيتها مكانا لتجمع أهل الحي والجيران يأتي كل منهم يحمل شي من طعام ويسهروا لوقت متاخر من الليل وعندما يأتي موعد نومها لا تجامل وتخلد إلى النوم في الحين…
كانت تلك ملامح من حياة سيده بابا وعالمها التي اختارته بطوعها حتى أتى صيف ذلك العام ١٩٨٢م وفيه فارقت روحها الطاهره هذا الجسد المنهك راضية مرضى عنها وقبل الوفاة كانت قد أوصت ابن عمها البشير عيسى بأن تكفن ويقام ماتمها بحر مالها وماتبقى من المبلغ يدفع به قيمة التذاكر لكل من أتى معزيا ومن العجيب أن من حضر وفاتها من بعيد ثلاثه أشخاص هم حسن احميدي وعثمان احميدي وبنتها أسماء عبد الله وكان قد تبقى من المبلغ (٢١) جنيه قد غطت تكاليف الثلاثه كما أرادتها هي وذهبت إلى ربها رضية مرضيه
انا لله وانا اليه راجعون
ذهبت إلى قبرها كما أتت إلى الدنيا بدون ارض أو مال
ذهبت بقلب سليم ورضاء تام
توفيت بمنزل ابن عمها البشير عيسى ووري جسدها الطاهر مقابر هارون وقد ودعتها اسيا عبد الله بابيات من الشعر…
يا حليلك سيده بابا
سيده الفارقت دابا
بيتك كان لينا جلابه
ولبينك رابط سحابه
وكنتي بالزين تربينا
ومن حقك دورتي لينا
يا حليلك يا سيده بابا
سيده الفارقت احبابا

وداعا حبوبه الحاجه سيده بابا المرأة العامله المكافحه
التي رحلت عن دنيانا عام ١٩٨٢م وظلت ذكراها خالده منقوشه على جدار البلد وحكاية تروي للأجيال…
استودعكم الله وإلى لقاء…

أحمد محمد مكاوي الشيخ
ام درمان /٢٢ مايو ٢٠٢١ م

مقالات ذات صلة