*ريجنالد وينجيت: مهندس سقوط دولة المهدية ومخطط بريطانيا الخفي في السودان* ✒️ *د. طارق محمد عمر* الخرطوم في يوم الجمعة 18 يوليو 2025*.

لطالما كان ريجنالد وينجيت، المولود في إنجلترا عام 1861، شخصية محورية في تاريخ السودان الحديث، بل يمكن القول إنه مهندس سقوط دولة المهدية وأحد أبرز رموز المخطط البريطاني للسيطرة على البلاد. فمنذ تخرجه من الكلية العسكرية الملكية وتخصصه في المدفعية ثم الاستخبارات، برز وينجيت كعقل استراتيجي بارع في عالم المخابرات العسكرية، وقد ترك بصماته العميقة في حروب بريطانيا بالهند وعدن وجنوب وشرق السودان قبل أن يلتحق بالجيش البريطاني في مصر. تكريمه من قبل خديوي مصر نظير أدائه في السودان لم يكن سوى شهادة على الدور المتنامي الذي كان يلعبه.

تابع وينجيت عن كثب أخبار الثورة المهدية منذ اندلاعها عام 1881 وحتى سقوط الخرطوم ومقتل الحاكم العام غوردون باشا في 26 يناير 1885. لم يكن مجرد مراقب، بل كان جزءًا أصيلًا من ماكينة الاستخبارات البريطانية التي رسمت مخططًا محكمًا لإضعاف وتفكيك وإزالة نظام حكم المهدية. هذا المخطط، الذي تشاركت في إعداده بعض الشخصيات اليهودية في بريطانيا، يتكشف بمرور الزمن عن تفاصيل مذهلة تكشف حجم المؤامرة.

أدوات المخطط البريطاني في تفكيك المهدية كانت خطة وينجيت وأعوانه متعددة الأوجه، تهدف إلى ضرب دولة المهدية من الداخل والخارج:

* الاغتيال الممنهج لقائد الثورة: أوصى المخطط بالتخلص من قائد الثورة المهدية عبر دس جرثومة المرض أو السم. وهنا تبرز شخصية “فرانشيسكا الدورو زانو فالنتيني”، المعروفة بـ “السيدة زينب”، وهي إيطالية صقلية تنتمي لعائلة ذات صلة بالمافيا السرية. لقد قامت هذه المرأة بتلطيخ إصبعها بالسم سرًا، ثم تظاهرت بمداعبة المهدي وأدخلت إصبعها في فمه، ليصاب بعدها بلحظات بهذيان وتعرق شديد، وهي علامات ترجح فرضية الاغتيال.

* الحصار الشامل: فُرض حصار عسكري واقتصادي ودبلوماسي محكم على السودان، بهدف خنق دولة المهدية وعزلها عن العالم الخارجي.

* إضعاف النسيج الاجتماعي والاقتصادي: تم فصل أبناء الخرطوم من الوظائف العامة بحجة عدم هجرتهم إلى الأبيض لمبايعة المهدي، في خطوة تهدف إلى إضعاف الدولة من خلال ضرب قاعدتها البشرية والاقتصادية.

* شق الصف الحاكم: عمل وينجيت على إثارة الخلافات داخل صفوف حكام المهدية. أدى ذلك إلى إشهار الأشراف من آل المهدي السلاح في وجه الخليفة، ليقوم الأخير بسجنهم وتجريدهم من حقوقهم.

* استنزاف الموارد البشرية والاقتصادية: تم فتح جبهات قتال حدودية في الحبشة وإرتريا ومصر، بالإضافة إلى تمرد مادبو زعيم الرزيقات في دارفور، وتمرد نوبة الجبال وبعض مناطق الجنوب والنيل الأزرق. هذه الجبهات استنزفت مالية الدولة وشتت الجيش وتخلصت من قادته.

* إثارة الفتن القبلية: أُثيرت الخلافات بين الخليفة وبعض زعماء القبائل، ما أدى إلى مقتل شخصيات بارزة مثل مادبو زعيم الرزيقات، والشيخ صالح زعيم الكبابيش، والمك عبد الله ود سعد زعيم الجعليين.

* زرع الشك بين القادة: تم زرع بذور الشك في نفس الخليفة تجاه بعض الأمراء، ما أدى إلى اتهام الزاكي طمل بالتخطيط لانقلاب وحبسه حتى الموت جوعًا وعطشًا. كما اتُهم الأمير إلياس أم برير بتحريض ود سعد على العصيان وحبس في غرفة طوب عليها حتى مات. أما الأمير عبد الرحمن النجومي، فقد اتهم بموالاة الإنجليز ومُنع عنه العون الحربي، ليُقتل وتتفرق جيوشه.

* شبكات التجسس المتعددة:

* شبكات تجسس حبشية: أدارها يوسف ميخائيل، وهو يهودي اعتنق المسيحية ثم ادعى الإسلام زورًا.

* شبكات تجسس مصرية: أدارها الأمير المصري حسن حسين.

* تجنيد العملاء: كشف بروفيسور إسرائيلي من جامعة حيفا في كتابه “ريجنالد وينجيت حاكم السودان” عن مجموعات من الشايقية كانت ترسل تقارير أمنية سرًا إلى وينجيت المعسكر على الحدود السودانية المصرية، ويرجح أن هؤلاء كانوا ممن عملوا في جهاز الأمن الداخلي إبان حكم غوردون. كما تم تجنيد عملاء للتأثير سلبًا على قرار الخليفة، أبرزهم الطيب ود الحسين مستشار الخليفة وسبعة من كبار القضاة.

* التواصل الاستخباري مع الأسرى: تم التواصل مع أسرى بارزين مثل سلاطين وإبراهيم فوزي و13 أجنبيًا في سجن الساير، بالإضافة إلى راعيي الكنيستين الكاثوليكية والنمساوية، وشمل ذلك عمليات لتهريب الأسرى إلى مصر.

* ضرب الاقتصاد المعيشي ونشر الأمراض: تشجيع النزوح من الريف إلى أم درمان بهدف ضرب الإنتاج الزراعي والحيواني، وخلق اكتظاظ ومشاكل اجتماعية وصحية وأمنية. كما تم نشر جرثومة الجدري والتيفوئيد في العاصمة أم درمان.

* إفساد أسر القادة: استخدم “الأغوات” (وهم فئة خاصة لا هم بالرجال ولا النساء) من طهاة ومصففي شعر وفنيي مساج ومكياج وملبسين ومعطرين ممن عملوا في عهد غوردون، لإفساد أسر القادة.

كل هذه المخططات وأكثر، أشرف عليها العقيد ريجنالد وينجيت، وصولًا إلى تزويد جيش الخليفة بالبارود منتهي الصلاحية مقابل أموال طائلة، في تكتيك يضمن تفوق القوات البريطانية.
من الإشراف الاستخباري إلى الحكم رافق وينجيت الحملة العسكرية بقيادة كتشنر، مستطلعًا الطريق وشاهد معركة كرري فجر الجمعة 2 سبتمبر 1898. لم ينته دوره عند هذا الحد، بل أشرف على اعتقال الأمراء وقادة الجيوش والتحقيق معهم، وإعدام بعضهم وترحيل البعض الآخر إلى سجن رشيد في مصر. وتأكيدًا لدوره المحوري، تعقب وينجيت وقواته الخاصة أثر الخليفة عبد الله وقتله بمسدسه في أم دبيكرات.
بعد ذلك، أشرف وينجيت على تكوين “قلم المخابرات” بمساعدة سلاطين ونعوم شقير (لبناني) وصموئيل عطية (لبناني)، وكان الأخير مكلفًا باختراق تجمعات الأنصار ومساكن الأمراء. ولعل عمل وينجيت في المخابرات البريطانية الداخلية (MI5) كان منطقيًا بالنظر إلى تحول السودان إلى مستعمرة بريطانية.

في عام 1899، أصبح وينجيت حكمدارًا على السودان خلفًا لكتشنر. وشهدت بداية عهده معركة الشكابة وإعدام ابني المهدي، الفاضل والبشرى. وفي عام 1902، أسس وينجيت شبكات تجسسية في الخرطوم وبقية المدن وخصص لها دورًا، وأطلق عليها اسم “الماسونية” لإفزاع العامة وتجنب الاقتراب منها.

نجح وينجيت في إخماد العديد من الثورات، منها ثورة ود حبوبة والعيسويين. كما دارت معارك استخبارية وعسكرية بين حكومة وينجيت والسلطان علي دينار في دارفور، انتهت بمقتل السلطان واستُخدمت فيها الطائرات الحربية لأول مرة في السودان.
كما قام برصد ومراقبة الوجود الإيطالي في إريتريا والفرنسي في غرب إفريقيا والبلجيكي جنوبًا، مؤكدًا بذلك دوره في تأمين المصالح البريطانية الإقليمية.
خلال الحرب العالمية الأولى (1917-1919)، عُيّن ريجنالد وينجيت مندوبًا ساميًا لبريطانيا في مصر، ليكون ذلك تتويجًا لمسيرة حافلة بالدهاء والتخطيط.
إن قصة ريجنالد وينجيت ليست مجرد سرد تاريخي، بل هي درس مستمر لنا. فبسبب عدم تدبرنا للتاريخ، يبدو أن ذات الخطط قد طُبقت على أنظمة حكم متعاقبة في السودان، مثل حكم عبود والنميري والصادق المهدي والبشير، ما أدى إلى الإطاحة بها وجعلها مجرد ذكرى بعد حضور، وأثرًا بعد عين.

مقالات ذات صلة