*مَنْ صمم علم استقلال السودان؟ الروايات المتداولة أحمد إبراهيم أبوشوك*

تُعَدّ إحدى مشكلات كتابة تاريخ السودان ضعف التوثيق، والركون في إثبات الأحداث التاريخية إلى الروايات الشفوية، التي لم تكن متواترة في أغلب الأحيان، بل تحتاج إلى تمحيص ونقد تاريخي حتى يتوصل الباحث إلى حقيقة ما جرى. ومن أبرز الأمثلة على ذلك قصة تصميم علم استقلال السودان ذي الألوان الثلاثة (الأزرق، والأصفر، والأخضر)، الذي أُجيز في الجلسة البرلمانية رقم (53) المنعقدة يوم السبت الموافق 31 ديسمبر 1955، والتي اتفق فيها أعضاء مجلسي النواب والشيوخ على اختيار العلم ذي الألوان الثلاثة رمزاً لاستقلال السودان. ورغم وضوح المعالم الشكلية والتاريخية لاعتماد العلم، لا تزال الإجابة عن سؤال “من صمّم العلم؟” موضع خلاف، وتتطلب بحثاً وتدقيقاً. ففيما تنسب بعض الروايات التصميم إلى الأستاذة السريرة مكي عبد الله الصوفي، وتشير روايات أخرى إلى الأستاذ صالح سليمان. فما الحقيقة؟ وأين تتقاطع أو تتباين هذه الروايات؟

الرواية الأولى: السريرة مكي الصوفي
نشر موقع على فيسبوك بعنوان “قصة امرأة سودانية” رواية تفيد بأن “السريرة مكي عبد الله الصوفي (1928–2021)، وهي شاعرة ومعلمة وفنانة تشكيلية من مواليد حي الهاشمياب بأم درمان، وهي مصممة علم السودان بعد الاستقلال عام 1956. وتقول الرواية “إن الزعيم إسماعيل الأزهري ومحمد أحمد المحجوب قاما برفع العلم الذي صمّمته، إيذاناً بإعلان استقلال السودان، حيث أنزلا العلمين البريطاني والمصري.” وتؤكد الرواية ذلك بقولها: “ما أن سمعت السريرة مكي بإعلان الاستقلال من داخل البرلمان، حتى بادرت بتصميم علم يعكس سيادة السودان واستقلاله، وقدّمته عبر شقيقها حسن مكي إلى الإذاعة السودانية داخل مظروف مغلق، موقعة عليه باسم مستعار هو (س. مكي الصوفي). وقد شرحت في رسالتها رمزية ألوان العلم: الأخضر للزراعة، وهي المهنة الرئيسة لأهل البلاد، والأصفر للصحراء، وهي مكون طبيعي أصيل في جغرافية السودان، والأزرق يرمز للنيل والماء. الرابط: [https://bit.ly/40IHIZp]

الرواية الثانية: صالح سليمان
في تعليق على مقال بصحيفة الراكوبة بتاريخ 25 ديسمبر 2013، بعنوان “السريرة الصوفي: المعلمة التي صممت علم السودان”، كتب شخص يُدعى محمد، قائلاً: “علم السودان صممه أستاذ صالح سليمان، رئيس شعبة الفنون بمعهد التربية بخت الرضا، وهو لا يزال حيًا، ويقترب عمره من التسعين عامًا، ويقيم بقرية الوحدة جنوب ود مدني. وقد تسلّم خطاب شكر من وزارة الداخلية في عام 1956، وقد اطلعتُ على الخطاب قبل سنوات. لكنه لا يهتم بالإعلام، شأنه شأن المعلمين الأفاضل في ذلك الزمان. وهو خريج أول دفعة من كلية الفنون بالمعهد الفني. أستغرب كيف يُنسب الأمر لشخص آخر، مع كامل احترامي للوالدة السريرة، والتي قد تكون لها مساهمات، لكن من باب الأمانة التاريخية، ينبغي تصحيح الرواية في مسألة وطنية تهم جميع السودانيين.” الرابط: https://bit.ly/47a6DZG

تقويم الروايتين: منافشة مفتوحة؟
تشير مذكرات خضر حمد، أحد أبرز الشخصيات السياسية في تلك الحقبة، إلى أن تصميم العلم خضع لمنافسة مفتوحة، حيث كتب: بعد الموافقة على قرار إعلان الاستقلال داخل البرلمان، “بدأ العمل لإعداد العلم، وتسابق الفنانون برسوماتهم المختلفة، وكان فيها المناسب. لكن حزب الأمة أصرّ على أن يحوي العلم اللون الأصفر، الذي، كما قالوا، يرمز إلى الصحراء.” (مذكرات خضر حمد، ص: 275). تُعزز هذه الشهادة فرضية أن تصميم العلم كان نتاج مسابقة شارك فيها عدد من الفنانين السودانيين، وقد يكون من بينهم كل من السريرة مكي الصوفي وصالح سليمان. وبالتالي، فإن المسألة قد لا تنحصر في من صمّمه منفردًا، بل ربما كانت ثمرة جهد جماعي أو تنافسي، أو أن هناك شخص قام بالتصميم وآخر بالتنفيذ؟

خاتمة مفتوحة:
تبقى قضية “من صمم علم استقلال السودان؟” سؤالاً مشروعًا يستحق البحث والتوثيق. وبين رواية السريرة مكي ورواية صالح سليمان وشهادة خضر حمد، تتضح الحاجة إلى تحقيق تاريخي موثق يستند إلى مصادر رسمية، أرشيفية وشخصية، لتثبيت الرواية الصحيحة.
أفتونا أيها القرّاء الكرام، إن كنتم تعلمون.

مقالات ذات صلة