يختزل كثيرون أزمة السودان في عدم التوافق على دستور دائم، غير أن جوهر الأزمة يكمن في غياب المعرفة بالوسائل والآليات التي تقود إلى الاستقرار، والأخير هو الذي سيُنتج الدستور بالضرورة. ولارتباط الأزمة بالدستور، يمكن التساؤل: هل كان الصراع حول الدستور من أهم أسباب الأزمة ومحركاتها الأساسية؟
الإجابة: نعم. ولتفكيك هذا الواقع لا بد من تناول الأبعاد الثلاثة للأزمة: الدستوري، والسياسي، والاجتماعي–الاقتصادي.
*أولاً: البُعد الدستوري للأزمة*:
1. منذ الاستقلال عام 1956 فشل السودانيون في التوافق على دستور دائم، وظلوا يتأرجحون بين دساتير انتقالية، بدأت بقانون الحكم الذاتي لسنة 1953، ثم الدستور الانتقالي لسنة 1956، الذي عُطّل بانقلاب عبود في 1958. وكما هو معلوم أعيد العمل به في ثورة أكتوبر 1964، لكنه أُلغي بانقلاب النميري 1969، فصدر دستور 1973 “الدائم”. بعد سقوط نظام النميري صدر دستور 1985 الانتقالي، ثم ألغاه انقلاب البشير في 1989. في 1998 صدر دستور الترابي المشهور “بالتوالي”، ثم جاء دستور 2005 كنتيجة لاتفاق السلام الشامل، واستمر حتى سقوط البشير 2019 حيث ظهرت “الوثيقة الدستورية” التي أُطيح بها في انقلابي أكتوبر 2020 و2021.
2. الخلاصة: كل دستور أو وثيقة ارتبطت بنظام حكم معيّن، وبسقوطه تلاشت معه شرعيته الدستورية.
*ملامح الأزمة الدستورية*:
غياب دستور توافقي حوّل مؤسسات الدولة إلى هياكل هشّة بلا حماية قانونية عليا. القضاء لم ينشأ نشأة طبيعية، وظل خاضعاً للسلطة التنفيذية، فعجز عن لعب دوره الرقابي.
*ثانياً: البُعد السياسي للأزمة*:
1. القوى السياسية والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني تعاملت مع الدستور كأداة صراع، لا كمرجعية عليا.
2. مؤسسات الدولة استُخدمت لتعطيل الدستور وتحويله إلى نصوص شكلية.
3. المؤسسة العسكرية تحوّلت إلى أكبر “حزب سياسي” في السودان.
*ثالثاً: البُعد الاجتماعي–الاقتصادي للأزمة*:
الأزمة لم تكن محصورة في الجانب الدستوري والسياسي فقط، بل شملت:
إهمال الهويات المتعددة وضعف التمثيل العادل.
تفاوت التنمية والتهميش.
تفشي الفساد وانكماش سلطة الدولة المركزية والولائية والمحلية.
*الفرق بين البعد الدستوري والسياسي*:
١ *. البُعد الدستوري*:
أ. يرتبط بالنصوص والمرجعيات القانونية.
ب. يتمثل في غياب دستور دائم،
ج. الانقلابات المتكررة، ضعف المؤسسات، وانعدام الشرعية الدستورية.
٢ *. البُعد السياسي*:
أ. يتمحور حول الصراع على السلطة بين المدنيين والعسكر.
ب. ضعف الأحزاب والانقسامات الداخلية.
ج. تعدد الحركات المسلحة والشعور بالتهميش.
د. شرعية الأمر الواقع بالقوة والسلاح، ما أدى إلى انفجار حرب 2023.
*النتيجة* : الدستور في السودان دائمًا نتاج صفقة سياسية؛ فإذا انهارت الصفقة انهار الدستور.
٣. *التداخل بين البعدين الدستوري والسياسي*
أ. كل دستور صيغ في السودان كان وليد توافق سياسي هش (1964، 1985، 2005، 2019).
ب. بغياب العقد الاجتماعي الجامع، تصبح النصوص الدستورية عاجزة عن الصمود.
*الحلول الممكنة للأزمة المركبة*:
الأزمة ليست دستورية فقط (غياب دستور دائم)، وليست سياسية فقط (صراع على السلطة)، بل هي مركبة: دستور بلا توافق سياسي = نصوص معطلة، وسياسة بلا دستور = فوضى.
*الأسس الستة للخروج من الأزمة* :
1. إدارة الظرف الاستثنائي: في أوقات الحرب أو الانتقال لا يمكن فرض برامج أيديولوجية أو انتخابات، بل التوافق على صيغة تمثيل عادلة.
2. التدرج وعدم الاستعجال: الانتقال يحتاج خططاً إسعافية واستراتيجية مرنة وصولًا إلى برلمان منتخب.
3. إسناد الانتقال للكفاءات غير الحزبية: لضمان الموضوعية والابتعاد عن الصراع الحزبي.
4. الموازنة بين الأمن والحريات: وثيقة الحقوق يجب أن تراعي واقع انتشار السلاح والسيولة الأمنية.
5. الاحتكام المبكر لصندوق الانتخابات: كضامن وحيد لبناء شرعية حقيقية.
6. التواصل المستمر مع الجماهير: بخطاب إعلامي يرفع الثقة والوعي، مع معالجة الأزمات الطارئة.
*الخاتمة*
وقف الحروب وإدارة مراحل الانتقال ليست معنية بحل جميع المشكلات المزمنة، بل بتهيئة المناخ للانتقال الآمن نحو دستور متوافق عليه وانتخابات حرة ونزيهة. الفشل في إدارة الانتقال هو السبب المباشر في تجدد الصراع وانفجار الحروب. واليوم، لا مفر من استيعاب هذه الدروس لبناء دولة سودانية جامعة تستوعب كل مواطنيها.
د. عبد العظيم حسن
المحامي الخرطوم
1 سبتمبر 2025