الصديق الدكتور محمد بادي شاعر معياري، تتميز أشعاره بالدفء، الذي يسري فينا عشقًا ووجعًا وتمني؛ لذلك وصفه أحد المعجبين من أبناء جيله بأنه شاعر البسطاء، الذي رفض الاقلاع عن عفويته المدهشة دون أن يتأثر بحياة الاغتراب وامتيازاتها ومغرياتها؛ لأن الغربة من منظوره ليست بُعدًا مكانيًا، بل سفينة شوق مبحرة في بحر من الآلام والأحزان، تغوص في أعماق الروح وتُجلِيها؛ ولذلك وصفها بالغيبوبة الصغرى ورحلة التوابيت والنعوش العائدة إلى أرض الوطن. بادي شاعر القلب الجماعي، والفعل المتمرد على الأنا، لا يخيفه الاعتراف بأحزان الوطن المتراكمة، ولا يتردد في حفز الضحايا بالثورة ضد الفساد والظلم، عندما ينادي بعودة الدراويش في رمزية فريدة، ترسم صورة ذهنية حية عن أشعار المقاومة ضد “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”، كما وصفها عبد الرحمن الكواكبي، وكما نسج لها محجوب شريف ومحمد طه القدال ومحمد الحسن سالم (حميد)، وأزهري محمد علي قصائدًا طوال، أصبحت من أهازيج التمرد ضد الطغيان. وتعد “عودة الدراويش” ومن قصائده الحسان الراثية لحال الوطن، والتي يستهلها بقوله:
حال هذا البلد بكاني ما سكتني
ريدتن فيهو كيف مالكاني كيف هلكتني
ناراً فيهو كيف ماكلاني كيف لهبتني
الاّ تراني في العرضة انحسب براني
والناس البتعرض جوه مما سمعتني
الاّ تراني أنبح زيي زي إخواني
والخيل بي عجاجة عمتني
توبي قصير وما غطاني
والزيف أم برد شقتني
قلت اباصر امرق بره من أحزاني
وين قبلتا سفكت دمي واتعدتني
هكذا تفيض أبيات عودة الدروايش بالشكوى من حال الوطن، التي جعلها الشاعر موضعًا للبكاء والحزن والخذلان، مجسدًا معاناة الوطن الجريح في صور متكررة من الحريق، والجوع، والعطش، وسلب الذات، وهادم اللذات، وكأن الوطن من منظور الشاعر بادي قد تحول إلى مسرح للفقد والخراب في ظل حكم الباشا الغشيم وزبانيته، وفي هذا يقول:
صقور الباشا نهشن من ضروعا وفوقنا طارن فر
كلاب الباشا فطرن فيها وما لقن البيقول لها جر
والباشا الغشيم فى ذاتو قعقع ومن كبادا فطر
لا ولدن يقولو انتر ولا مهيرتن تقولو فشر
ويا الباشا الغشيم قول لي جدادك كر
***
بعد حكت العليها اتوهدت برزن بروق عينيها
كست خلاصي بين إيديها ما لقيت البلفقوا ليها
وقعت دمعة من ود عيني قلت اخفيها
وقعت عيني ذاتها عليها
حسيت المسافة البينا قلت امشيها
كفتني الصقور بي جيها والبلد اترمت بي جيها
حكموا كتافي عقدوا لساني ضاروا وشيها
غنوا اتهنوا تربوا وشربوا من بكريها
مصرو ثديها شربوا سلاف معتق من لذيذ شفتيها
عيني تشوف لسانا وصرختا وثكليها
عبلة تنادى في الولد البشق التيه
عبلة تنادى في الولد البعرف الجيها
عبلة تنادى في الولد البعدلو وشيها
عبلة تنادى واقفة قصادي مصروا ثديها
عيني تشوف لسانا وصرختها وثكليها
ثم يخرج من غياهب هذه الصور المأساوية، ليتكئ بادي على إرث إسلامي-صوفي كثيف، يستشهد فيه باستدعاء “قميص عثمان” الذي خُضَّب بالدم الندي، ويربط ذلك باستشهاد “الحسين” في كربلاء، ثم يستدعي نصرة الصحابة الصالحين وعودة “الدراويش” الهائمين؛ لكنه لا يوظف هذه الرموز التاريخية لتوثيق حوادث تاريخية، بل لتأطير مشروع مقاومة معاصر، يجعل من تراث الناس حافزًا للنهوض ضد الظلم، لا وسيلة للتواطؤ معه، بقول:
والليلة يا ريح الصلاح الهابا فيك راحه وجع
والليلة الشجر الكبار وحشاه ناقرو السوس بقع
والليلة حق الناس ببين والليلة بنشوف البدع
***
والليلة وين البرقي من تالاك يبين
والبرق من تالاك سنين
يبرق كذا سيوف الصحابه الساجدين
والعاديات المؤريات خرشه زناد في الأرض جات
والخلوق الضايقة لا قوها أجمعين
عرب البوادي المن شرق والامه دي المصلوبه
فوق حبل الصبر لما اتلوت
والكادحين والصالحين والساجدين والعابدين والزاهدين
ونفضنا من زمن الجدود صقر السنين
وسرجنا خيل مسروجة من زمن الحسين وعرضنا زين
وجمعنا غطا المشرقين والمغربين
واميرنا صاح الرايه وين
والجمع صاح الرايه وين
***
ومشينا بالتاريخ ركبنا على البساط الأحمدي
كايسين محل وقعت سواري الرايه وانقطعت تواريخ النبي
ولقينا باقي الرايه فوق قبر الخليفة الراشدي
مليانه دماً كيف ندى
وساريها فوق الفتنة دايخ ومنتكي
وغسلنا بي دمع الندم قميص عثمان من الدم الزكي
وعقدنا حبل الدين على طرف القميص المسلكي
والراية زادت من الملي ورفرف قماشا المخملي
وحرسوها زي سبعين ولي
وعند هذا المنعطف المشحون بدلالات الثورة، تبدأ بشارات النصر، التي جسدها الشاعر بادي في عودة الدراويش، فالقصيدة يصنفها النقاد بأنها نص شعري مفعم بالرمزية التاريخية والسياسية والدينية، تتشابك فيه نبرة الحزن الثائر مع لغة الحماسة الملتهبة، لتصوغ مشهدًا مركّبًا بين الواقع والرمز. والقصيدة تقرأ من عدّة زوايا، علها تدفع الحادبين على غسل دمع الوطن بخطط استراتيجية واعية تخرجه من النفق المظلم، قبل أن يصبح أثرًا بعد عين.