خاص : سودان 4نيوز
تحقيق _آفاق احمد محمد
في السودان، لا تبدأ الحكاية من لحظة الاعتقال، بل تبدأ من لحظة اعتقاد السلطة
أنها تمتلك الجسد والروح والمستقبل والدم والكرامة تبدأ من صباحٍ تُختطف فيه
البلاد كلها قبل أن يُختطف أيّ شاب، وتُسحق فيه العدالة قبل أن يُسحق أيمن. وفي
الظلام الذي صنعته المليشيا، في الخراب الذي خلّفه النظام الدموي ، يبرز جهاز
الأمن كوجهٍ آخر لذات الوحش… لكنه وحش يعمل في الظل، لا يحمل شعارًا ولا
يترك بصمة، فقط يترك رجالًا مكسورين، وأجسادًا مشوهة، وأحلامًا مخنوقة.
وهنا، تبدأ قصة أيمن—ليس اسمه الحقيقي، لأن الحقيقة وحدها لا تكفي أحيانًا لحماية
من بقي حيًا.
شاب عادي، خرج في مظاهرة عادية، يهتف بكلمات عادية… لكنها بالنسبة لهم كانت
خيانة كبرى.
بالنسبة لجهاز الأمن، كل من يهتف “حرية هو مشروع جريمة.
وكل من يرفع رأسه هو مشروع ضحية.
وكل من يمشي دون إذنهم هو مشروع انتقام.
في ذلك المساء، حين أُغلق الشارع بالهتاف، لم يكن أحد يعرف أن ثلاثة عربات “بوكس” تتقدم من الجهة الأخرى، تحمل رجالًا لا يعرفون معنى القانون، ولا يفرّقون بين جسد شاب وبين جدار. نزلوا كالعاصفة. ضرب، سحل، ركل، وشتائم تقطر حقدًا.
قبضوا على أيمن من عنقه، جروه على الإسفلت حتى نزف جلده، ثم رفعوه مثل كيس جثة وألقوه داخل السيارة.
…من هنا تبدأ الخيانة الوطنية الكبرى… خيانة الدولة لإنسانها.
داخل السيارة… كان أول درس في الجحيم
لم يكن أيمن يرى شيئًا، لكن كان يسمع:
ضحكاتهم.
أقدامهم تضرب جسده.
أحدهم يهمس له في أذنه:
حنعلّمك الرجالة وين… ونوريك البتسوّيهو في الشارع ده بتدفع ثمنه كيف
ثم بدأت أول ضربة على فخذيه.
ثم الثانية.
ثم السباب الذي يشبه الطعن.
ثم تهديدات بالاغتصاب، بالموت، بالإخفاء القسري.
لكن الجحيم الحقيقي لم يبدأ بعد…
الرحلة ما زالت طويلة.
والخوف ما زال طفلًا أمام ما ينتظره.
زنزانة “الثلاجات” في موقف شندي… حيث الموت يتنفس من الجدران
لم يدخل أيمن المكان…
بل دُفع رميًا داخله.
رائحة الرطوبة، العفن، البول، الدم القديم، العرق، والحديد… كلها تصفع الوجه دفعة واحدة.
أرضية إسمنتية باردة، جدران معدنية تأكل الضوضاء وتعيدها صدى مكتومًا.
باب حديدي سميك، إذا أُغلق… يغلق معه العالم.
لا نور.
لا هواء.
لا زمن.
لا أحد يعرف أنك حي.
ولا أحد سيعرف إن متّ.
الزنزانة ليست مساحة… إنها فم وحش
الدقائق الأولى: كسر الروح قبل كسر الجسد
لم يُعطوه فرصة لالتقاط أنفاسه.
سألوه أول سؤال:
كنت واقف وين؟ بتتظاهر ليه؟ مع منو؟
لم ينتظروا الإجابة.
ضربة على الرأس.
ركلة على الصدر.
صفعة تليها أخرى.
ثم سُحب إلى ركن مظلم داخل الزنزانة.
أحدهم قال للآخر:
الليلة دا بنفّسو.
كانت تلك الكلمة بداية النهاية.
ساعات العذاب الأولى
ضرب بلا توقف.
ركل على البطن.
جرّ بالساقين.
وقوف قسري لساعات.
تهديد بالقتل.
إجبار على الوقوف فوق أصابع قدميه حتى الإغماء.
لكن كل ذلك كان مجرد تمهيد…
كانوا “بنفسك”، كما قال أحدهم.
كأنهم يهيئون قطعة لحم قبل ذبحها.
الضربة التي غيّرت مستقبل أيمن إلى الأبد
في اليوم الثالث، حين فشلوا في إجباره على الاعتراف، قرروا الانتقال إلى المرحلة التي يسمونها بينهم:
“الضرب الخاص”.
ضربوه على فخذيه بقوة، ثم على أسفل البطن، ثم على أعضائه التناسلية…
مرة…
مرتين…
عشر…
عشرين…
حتى سمع صوتًا داخليًا يشبه التمزق.
صرخ، لكنه لم يسمع صوته.
الألم كان يبتلع كل شيء.
ضربة واحدة كانت كفيلة بأن تفصل حياته إلى قبل وبعد.
جهاز الأمن لم يكتفِ بتعذيبه…
بل أخصوه.
سحقوا رجولته، شبابه، مستقبله، حقه الطبيعي في أن يكون أبًا، في أن يكون رجلًا كاملًا…
سحقوه فقط لأنهم يستطيعون.
هذا ليس مجرد انتهاك… هذا جريمة حرب، جريمة ضد الإنسانية، جريمة معلّقة في رقبة الوطن كله.
أثر الجريمة… ما بقي بعد الألم
حين خرج أيمن، لم يتعرف عليه أحد.
وجهه غائر.
عيناه زائغتان.
صوته مكسور.
جسده ملفوح بالكدمات.
ومستقبله… محذوف.
وفي المستشفى، حين دخل غرفة الفحص، لم يستطع أن ينطق.
كان يمسك طرف السرير بيدين ترتعشان…
والطبيب ينظر إليه بعينين غاضبتين لا تخفيان الصدمة:
عملوا فيك شنو؟ منو العمل الكلام دا؟
لكنه لم يستطع الرد.
كيف يشرح شيئًا لا يستوعبه؟
كيف يصف الألم الذي لا لغة تصفه؟
أمه، تلك المرأة التي كانت تضحك بصوته، انهارت حين أدركت الحقيقة.
صرخت:
يا رب… يا رب… ابني دا جنّسو ليه؟
هذه القصة ليست عن أيمن وحده… بل عن السودان كله.
إنها ليست قصة… إنها جرح.
وليست واقعة… إنها محكمة مفتوحة.
وليست حادثة فردية… إنها منهج دولة كاملة في القمع والانتقام.
شهادة أيمن… صرخة شاب بلا حماية
أيمن، طالب جامعة عادي، بلا أي تنظيم سياسي، بلا انتماء لأي حزب أو مجموعة، خرج مرة واحدة فقط ليرفع صوته ضد الظلم الذي يضرب وطنه.
كنت فقط أدرس، أعيش حياتي، لكن عندما رأيت بلدي بتضيع، خرجت. مثل أي شاب عنده ضمير… نادى المنادي، وقلت كلمتي. ما عندي سلاح، ما كسرت شيء، بس قلت الحقيقة.
تم القبض علي بعد الموكب بالقرب من منزل أسرتي ، وسُحبت إلى زنزانة الثلاجات في موقف شندي، حيث الظلام يبتلع كل شيء، والحديد البارد يلسع الجسد، والرطوبة تلتصق بالجلد، وأصوات الصراخ تتردد وكأنها تزيد الرعب.
أول ما دخلت هناك، بدأت الضربات… الركل، اللكم، الصفعات… كل ضربة كانت تزيد الألم، وكل صرخة كانت تزداد وحشية التعذيب. كنت واقف على أصابع قدمي لساعات… وكل حركة كانت تعني موجة جديدة من الضرب.”في اليوم الثالث، جاء الأسوأ: الإخصاء.
ضربوني على كل شيء… جسدي، رجولتي، حياتي… كل ضربة كانت تقتطع جزءًا مني. حسيت إنو حياتي انتهت… جسدي محطم، روحي مشوهة، ومستقبلي مسروق. وما كنت أنتمي لأي تنظيم… بس كنت بنادى بالحق.”
بعد أيام من العزلة والحرمان من النوم، خرج أيمن من المستشفى. كل حركة كانت مؤلمة، كل فحص طبي كشف عن وحشية لا توصف: كدمات، إصابات في الرأس والظهر والبطن، آثار الإخصاء، وروح مثقوبة.
قال لي كنت أتمنى لو قتلوني… كان أقسى شيء بالنسبة لي إنهم تركوني أعيش مشوّهًا… أنا طلعت من هناك… وما بخاف من الموت… لكن الخوف الحقيقي إنك تعيش مشوّه، تتذكر كل يوم ما حصل لك.”
أيمن أصبح صوت كل الشبان الذين اختطفهم الخوف والظلم، شاهدًا حيًا على وحشية جهاز الأمن، وعلى سياسة الترويع الممنهجة التي تهدف لكسر أي صوت مستقل، حتى لو كان مجرد طالب جامعة.
شهادة أيمن… وزميله في زنزانة الثلاجات
أول كلمة قالها لي صديق أيمن بعد أن عرفته على نفسي كانت كالصاعقة:
“يا أختي… ما تفتشي القديم… عشان ما تفتحي جروح أيمن.”
لم أصدق أنه ما زال حيًا بعد كل ما مرّ به. كان صوته يحمل صدى الألم والقهر والإذلال، وعيناه تحكيان ما لا تستطيع الكلمات وصفه. ثم بدأ يحكي لي كل تفاصيل ما دار في معتقل موقف شندي سئ الذكر الذي يسمي الثلاجات، حيث الحديد البارد يلسع كل جزء من الجسد، والرطوبة تلتصق بالجلد، والظلام يبتلع كل صوت وكل نفس.
ربطني أيمن بأحد الشباب الذين تزامل معهم في نفس الزنزانة فترة الاعتقال. كان الشاب شاهدًا حيًا على وحشية جهاز الأمن، مؤكدًا ما رواه أيمن صحيح مائة بالمائة
الزنزانة كانت جحيم… كل صرخة تتردد على الجدران المعدنية تزيد الألم. رأيت أيمن يتعرض لكل شيء… ضرب، ركل، صفعات… كل حركة كانت سببًا لموجة جديدة من التعذيب.
وتابع عن أبشع ما شاهدوه:
الأسوأ كان الخازوق… رجال اتقعدوا فيه وانتهوا منهم… جسدهم وروحهم دُمّرت. أيمن ضربوه وعذبوه بطريقة لا يمكن تصورها. كل ثانية هناك كانت درسًا في الرعب… كل حركة صغيرة كانت قد تضاعف العذاب.”
وأضاف عن سياسة الانتقام العشوائي:كلنا شباب عاديين، ما عندنا أي ذنب… لكن جهاز الأمن كان يضرب، يكسر، يسخر… بلا سبب واضح، فقط لإرهاب كل صوت مستقل. أيمن كان شابًا عاديًا، لكن خروجه ضد الظلم جعلهم يكسرونه جسديًا ونفسيًا… واللي حصل له، يمكن أن يحصل لأي شاب يجرؤ على قول الحقيقة ولا اكذب عليك حصل لكثيرين من الشباب في موقف شندي
هذه الشهادة، التي ربطني بها أيمن وزميله في الزنزانة، تعتبر وثيقة للتاريخ، تؤكد وحشية جهاز الأمن وقسوته، وتضع أمام العالم صورة صادمة للانتهاكات الممنهجة التي يتعرض لها كل من يرفض الصمت في السودان.
من أجل رئيسٍ أفسد حتى أخلاق أتباعه
من أجل ماذا… يفعلون كل هذا؟
من أجل رئيسٍ لم يكتفِ بتدمير وطنه، بل أفسد حتى أخلاق أتباعه. رجلٌ علّم جهازه أن القوة تُقاس بكمية الألم، وأن الوطنية تُثبت بمقدار ما تسفكه من دماء الناس. رئيسٌ جعل الجلاد يظن أن الرجولة هي القدرة على كسر ضحية أعزل، وأن الشجاعة هي اقتحام بيت مواطن لا يملك شيئًا إلا خوفه.
لقد أفسدهم تمامًا…
أخذ شبابًا في عمر أبنائه، وزرع في صدورهم عقيدة قذرة: أن التعذيب حماية، وأن الإخصاء انتصار، وأن سحق الأصوات المعارضة هو الطريق لبقاء السلطان. فصاروا يمارسون الوحشية كأنها وظيفة، ويجلدون المواطنين وكأنهم ينتقمون لنفس لا يعرفونها، وسلطة لا يملكونها.
إنهم أبناء نظام لا يعرف الله، ولا يعرف الناس، ولا يعرف القانون.
نظامٌ جعل من جهاز الأمن آلة للانتقام الشخصي، لا لحماية الوطن؛ آلة تعبد الرئيس أكثر مما تؤمن بالبلد، وتخاف غضبه أكثر مما تخاف من عدالة السماء.
من أجل من؟
من أجل رئيسٍ سقط ويحرس اليوم في افخم الاماكن وترك وراءه جيلاً مشوهًا روحيًا، تائهًا، يحمل خطاياه على ظهره.
من أجل رجلٍ انتهى، ولم ينتهِ الخراب الذي تركه في النفوس.
ومن أجل نظامٍ مات، لكن جرائمه لا تزال تمشي بين الناس، وبصمتها لا تزال فوق أجساد المعتقلين، وفي أعماق المكلومين.
صوت الأم… صرخة لا يسمعها الجلاد
والدة أيمن ـ تلك المرأة الصبورة التي تحمل الدنيا فوق كتفيها ودمعتها محبوسة في عينيها منذ يوم الاعتقال ـ لم تحتج إلى مقدمات. ما إن بدأت المكالمة بيننا حتى خرج صوتها مثل سكين قديم يجرح الهواء:
حسبي الله ونعم الوكيل في من مدّ يده على ابني وفعل فيه ما فعل… حسبي الله على كل من ظلمه.
قالتها وهي تحدّق في الفراغ، كأنها تنظر إلى الجدار الذي علّقوا عليه ابنها ليتناوبوا على كسره.
ثم تابعت بصوت ينزف:
أيمن شاب مسالم… مصلي… مسبّح… قارئ قرآن… ملتزم من صغره. ما رفع صوته على أحد، وما أذى مخلوق. خرج يومها زي أي شاب شايف البلد بتضيع قدّامه… خرج لأنه موجوع، مش لأنه عايز يعمل مشكلة.”
كانت تتكلم وكأن صدرها يحمل حربًا كاملة، حرب أمّ لا تريد من الدنيا إلا أن يعود ابنها كما كان. قالت وهي تمسح دموعها بكف مترجف:هم ما بس دمروا أيمن… هم دمروني أنا ذاتي. كسروا ضهري. خطفوا مني ابني، ورجعوا لي واحد تاني… واحد موجوع… واحد بيبكي بصمت… واحد حياته اتقطعت
تنهّدت تنهيدة أم لو سمعتها الجبال لانهارت، ثم أضافت:
أنا ما دايرة حاجة… بس دايرة أعرف: ليه؟ ليه يعملوا في زول بريء كده؟ ليه يشوهوا مستقبل ولد ما عنده عداوة مع حد؟ ليه؟
صوتها وحده كان تحقيقًا كاملًا… شهادة دامغة… لائحة اتهام لا يسقطها الزمن.
هي أمّ سودانية تحمل كل وجع البلاد في قلبها، وتصرخ بوجع الملايين:
“حسبي الله ونعم الوكيل…
قال لي الطبيب الشرعي الذي فضل حجب اسمه لظروف أمنية إن الركل في الخصيتين ليس فعلاً عابرًا ولا تأثيره مؤقتًا بل يمكن أن ينهي رجولة الرجل في لحظة واحدة وقالها بوضوح قاطع إن الخصية عضو هش للغاية ومحمية فقط بطبقة رقيقة من الجلد وإن بداخلها أوعية دقيقة ونسج لينة لا تتحمل الضغط العنيف وعندما تضرب بقوة مباشرة يحدث ما نسميه في الطب تمزق الخصية وهو أشبه بانفجار فقاعة ماء تحت ضربة مطرقة يحدث نزيف داخلي عنيف وانسلاخ للأنسجة وقد ينقطع الحبل المنوي بالكامل وتموت الخصية خلال دقائق حتى لو بقيت في مكانها فهي تتحول إلى كتلة لحم بلا وظيفة ولا قدرة على إنتاج الهرمونات أو الحيوانات المنوية وقال إن الركل المتكرر قد يسبب إخصاء كامل سواء في خصية واحدة أو الاثنتين وإن بعض الإصابات التي شاهدها لدى المعتقلين ليست ناتجة عن عنف عشوائي بل عن استهداف متعمد للمنطقة الحساسة لإحداث الأذى الأكبر والإذلال الأعمق وأضاف إن هذا النوع من الضرب ليس استجوابًا ولا محاولة للحصول على معلومات بل تعذيب مباشر يهدف إلى تحطيم الرجولة وإسكات الروح وكسر الكرامة وإن آثاره لا تزول بل تبقى مدى الحياة جسديًا ونفسيًا وختم الطبيب حديثه بغضب مكبوت وهو يقول إن ما تعرض له أيمن يدخل في إطار الجرائم المصممة لكسر الرجال لا لكسر الصمت وإن مثل هذه الضربات لا يفعلها إنسان سوي بل من اعتاد أن يرى الجسد أداة للعقاب والإهانة.
واضاف د. محمد أخصائي الطب النفسي إن ما تعرض له أيمن ليس مجرد إصابة جسدية بل صدمة نفسية عميقة تهز كل جزء من كيانه وتخترق روحه وأضاف أن الخطوة الأولى في العلاج هي توفير بيئة آمنة ومستقرة بعيدًا عن أي تهديد أو خوف حتى يشعر بالسلام والحماية والخصوصية التامة وأوضح أن المرحلة التالية هي التقييم النفسي الشامل لتحديد حجم الصدمة ومدى الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة PTSD وتسجيل كل المشاعر المكبوتة من خوف وغضب وذنب وفقدان الثقة بالنفس وقال د. محمد إن الدعم النفسي الفوري أمر حاسم ويبدأ بالاستماع للضحية بتعاطف كامل دون أي حكم أو لوم ومشاركة الأسرة أو أصدقاء موثوقين لمساعدته على التعبير عن ألمه وتخفيف العبء النفسي وأضاف أن العلاج النفسي المتخصص يشمل العلاج المعرفي السلوكي CBT لتعديل الأفكار السلبية وإعادة بناء تصور الذات والعلاج بالتعرض التدريجي لتقليل ردود الفعل العنيفة تجاه الذكريات المؤلمة ويمكن اللجوء أيضًا إلى العلاج الجماعي أو الأسري لمشاركة التجارب وكسر الشعور بالعزلة وأوضح أن بعض الحالات تحتاج لدعم دوائي مثل مضادات الاكتئاب أو مضادات القلق مع متابعة دقيقة لتأثير الدواء بالتوازي مع العلاج النفسي وأضاف أن إعادة بناء الثقة بالنفس والهوية أمر حيوي من خلال تشجيع الضحية على ممارسة هواياته أو مهاراته وتعزيز شعوره بالقيمة الإنسانية والكرامة والتأكيد له أن ما تعرض له ليس خطأه الشخصي وأكد د. محمد أن المتابعة الطويلة الأمد ضرورية لمساعدة الضحية على استعادة الحياة الطبيعية والاستقلال النفسي والقدرة على مواجهة العالم بعد الصدمة العميقة التي سببها التعذيب الجسدي والنفسي وأن هذه العملية ليست مجرد علاج بل معركة مستمرة لاسترجاع الإنسان من تحت الرماد النفسي الذي تركه التعذيب.
……….
مات الضمير… وماتت معه آخر قطرة رحمة كانت يمكن أن تعيش في صدور أولئك الذين جعلوا من التعذيب مهنة ومن القهر عقيدة. لم يعد في قلوبهم أي أثر للبشر، ارتدوا الزي الرسمي وانسلخت منهم إنسانيتهم دفعة واحدة، كأنهم وُلدوا من باطن العنف لا من رحم امرأة. صاروا آلات متعطشة للصراخ، وجلودهم لا ترتجف ولو انشقت روح رجل بين أيديهم.
في تلك الزنازين، حيث يختنق الهواء برائحة الخوف، وحيث الصراخ أقدم من الضوء، يقف جلادٌ بلا قلب أمام شاب أعزل، لا يحمل إلا حلم وطن نظيف. ينهال عليه ضربًا وركلًا كأنه ينتقم من الحياة نفسها. رجالٌ محترفون في إذلال الضعيف، متخصصون في تكسير الأجساد وتطويع الأرواح، كأن شرفهم لا يكتمل إلا إذا انطفأت عيون ضحاياهم. هناك… في الغرف التي لا يدخلها القانون، يسقط الإنسان في أول ضربة، وتسقط الأخلاق في ثاني ضربة، ويسقط الوطن كله مع الثالثة.
حتى لو كان الحاكم أخوك، أبوك، ، لا يحق لك أن تحميه فوق شرف الرجال، لأن الرجولة ليست في حمل سوط ولا في رفع حذاء فوق رأس معتقل. الرجولة ليست في تنفيذ أوامر طاغية، بل في أن توقفه حين يتجاوز حدود الله وحدود الإنسانية. لكن هؤلاء لا يعرفون . الرجولة باعوا شرفهم للسلطة بثمن رخيص، وأصبحوا أشباه رجال، أشباه بشر، خدامًا لكرسي لا يستحقهم ولا يستحقونه.
أي أخلاق تبقت لمن يمسك شابًا أعزل ويلقيه أرضًا؟ أي شرف بقي لمن يقف فوق جسد يرتجف ولا يخشى الله؟ أي روح بقيت في صدر من يرى الدم يسيل من رجل صغير السن فيزداد ضربًا؟ لماذا يفعلون ذلك؟ من أجل من؟
من أجل رئيسٍ سرق الدولة والناس والأخلاق.
من أجل طاغية أفقدهم الحياء، حتى غدت القسوة لغتهم اليومية.
من أجل سلطة وضيعة جعلت رجال الأمن أدوات تكسير، لا أدوات حماية.
والأفظع أن هذه الوحشية تكررت مع آلاف الضحايا… قصص تتشابه في وجعها، وتتفوق في بشاعتها، وتقول إن موت الضمير لم يكن حادثة عابرة بل منهجًا كاملًا. لم يُعذَّب أيمن وحده، ولم يُضرب وحده، ولم تُهدَر كرامته وحده، بل شاركه آلاف الشباب الذين خرجوا يهتفون للحرية فوجدوا أنفسهم في جهنم مصنوعة بأيادٍ سودانية.هؤلاء الجلادون لم يعودوا يعرفون الله، لم يعودوا يعرفون الخوف، لم يعودوا يعرفون معنى إنسان يولد من أم ويكبر في بيت. كل ما يعرفونه هو الصوت الذي يقول لهم اضرب… اكسر… اصمت. صوت السلطة الذي جعلهم عبيدًا لقائد لا يساوي عرق شاب خرج من أجل وطن.
هكذا مات الإنسان في صدورهم…
وهكذا ظلت الوحشية وحدها حيّة.
