*حين يشتعل العدل… تحترق المليشيا ودول الدم معًا*

هناك جرائم يمكن أن تصفها بالفظيعة، وجرائم يمكن أن تتردد قبل كتابتها، لكن ما فعلته مليشيا الدعم السريع في الفاشر لم يعد جريمة، بل انحطاطًا منزوع الغطاء، انحطاطًا يمشي على قدمين، انحطاطًا تظلّ روائحُهُ معلّقة فوق صدور الناس مثل غبار الموت. هذه ليست حربًا، بل قسوة عارية، انتقامًا إثنيًا معلنًا بلا خجل، مشروع إبادة يخجل منه التاريخ نفسه.

من أين يبدأ الكلام حين تنزل المليشيا إلى مدينة كانت محاصرة فتتحوّل إلى ورشة مفتوحة لتصفية الجسد البشري؟ من أين يبدأ حين تتجوّل عربات الإسعاف التي خُلقت أصلاً لإنقاذ الأرواح وهي تحمل ثلاجات لحفظ دماء الضحايا، تسحب دماء الشباب كما تُسحب مياه الآبار؟ أي حفرة سحيقة في الأخلاق تلك التي دفعتهم إلى تحويل أجساد البشر إلى موارد رخيصة تُشفَط وتُباع؟ أي عقل شيطاني ابتكر هذا الانتقام الذي لا يعرف معنى الإنسانية ولا معنى الحرب ولا معنى الشرف؟
نحن أمام مليشيا لم تكتفِ بقتل الشباب. لم تكتفِ بإعدامهم. لم تكتفِ بحرق الجثث، ولا بفتح بطون القتلى ولا بتشويه وجوههم. لا… هؤلاء هبطوا إلى مستوى آخر، مستوى يحوّل البشر إلى مواد أولية، إلى أكياس دم، إلى “مخزون بشري” يقيمون عليه تجارتهم القذرة. مسرحية إحراق الجثث لم تكن لإخفاء موتهم… بل لإخفاء ما فعلوه بهم قبل الموت. لأن الذي تُسحب دماؤه حيًا، والذي تُقطع أعضاؤه التناسلية، والذي تُجرَّد كرامته لأنه ينتمي لـ”مكون” لا يرضى عنه القتلة… لا يُدفن، بل يُخفى. يُمحى. يُغطّى بالرماد ليختفي السؤال، وتختفي الحقيقة، ويختفي الألم الذي يخافون من فَضحِه.
هذه المليشيا التي لطالما أدارت في السابق شبكات اتجار بالأعضاء، كانت فقط تنتظر لحظة الانهيار الكبير لتتحرك بلا ساتر، بلا رقيب. وحين جاءت لحظة فك الحصار ، تجلّى وجهها الحقيقي. قطعت الأعضاء التناسلية للشباب كنوع من انتقام بدائي، همجي، مشحون بالكراهية الإثنية. كان ذلك الاعتداء ليس مجرد جريمة، بل إعلان نية، إعلان حرب على هوية كاملة، إعلان أن الجسد نفسه أصبح ساحة للانتقام، وأن المكوّن الذي يكرهونه يجب أن يُعاقَب حتى في رجولته، في فحولته، في ما يعتبرونه رمز بقائه.

ولأن الجريمة تتكاثر مثل النار، امتدّت الأيادي ذاتها إلى أعراض الأطفال. لم يكن التحرش ولا الاغتصاب ولا فضّ بكارة طفلات جرائم “عرضية” أو “استثناءات”، بل حلقات في سلسلة الانتهاكات نفسها. كانت تلك رسالة واضحة: نحن نهاجمكم في جذوركم، في مستقبل أطفالكم، في أكثر مناطقكم براءة. أطفال لم يكتبوا رأيًا سياسيًا، لم يقاتلوا، لم يرفعوا سلاحًا، لم يحملوا سوى أحلام صغيرة… ومع ذلك امتدت الأيادي إليهم فقط لأنهم من مكوّن “يُعتبر خطأ” في عقل المليشيا.
أي انحطاط هذا؟ أي عقلية؟ أي نفس مظلمة يمكن أن تدفع رجلًا بالغًا ليتعامل مع طفلة كجزء من “أرض معركة”؟ أي تاريخ سيستطيع أن يفهم، أو يغفر، أو يشرح؟

إن ما فعلته المليشيا في الفاشر ليس مجرد فصل في كتاب جرائم الحرب. إنه مشروع مكتمل لإبادة المجتمع من الداخل: دماء تُسحب، أعضاء تُقطع، أجساد تُحرق، أطفال يُغتَصبون، نساء يُهَدَّمن نفسيًا، مدن تُجوّع حتى تسقط، وذاكرة كاملة تُحاول هذه العصابة محوها من الأرض.

لم يعد الحديث هنا عن مليشيا متمردة. بل عن ماكينة موت تعمل بعقلية تجارة البشر، ونزعة انتقام إثني، وعطش لا يرتوي للتمثيل بالبشر. هذه عصابة لا تحارب الجيوش، بل تحارب فكرة الإنسان. تحارب بقاء المجتمع. تحارب الأمل نفسه ما حدث ويحدث في الفاشر ليس حدثًا عابرًا. ليس “حادثًا” ولا “تجاوزًا”. إنه وحشية ممنهجة، تبدو فيها كل خطوة محسوبة: ترهيب، إذلال، تكسير جماعي لظهر الناس، وتوجيه رسالة واضحة: أنتم لستم بشرا في نظرهم. أنتم مادة للقتل. مادة للاتجار. مادة للانتقام.

لكن كل هذا لن يمحو الحقيقة: أن الفاشر صمدت. وأن هذا الشعب، رغم الدم والسحل والجوع والحداد، لم يركع. لم ينكسر. لم يتنازل. وأن هؤلاء الذين يسحبون دماء الشباب اليوم، والذين اختطفوا أجساد الأطفال، والذين أحرقوا الجثث، سيُلاحَقون. سيُكتب تاريخهم بالسواد. سيُسمَّون بما يستحقون: قتلة بلا شرف، بلا قيمة، بلا إنسانية.
لا مكان بعد اليوم لأي حلول نصفية، ولا لأي تأجيل أو مراوغة، ما يجري في الفاشر ليس مجرد تجاوزات، بل جنون إثني منظم، مليشيا ومرتزقة يستهدفون مكونًا بعينه بدم بارد، بلا رقيب، بلا رحمة، بلا شفقة. لا يمكن التراخي، لا يمكن التسويف، المطلوب تحرك عاجل وفوري وحاسم لوقف هذا الجنون قبل أن يبتلع كل شيء من كرامة الوطن ووجدان الإنسان.

العدل قادم… قادم كالسيف المسلّط، لا يرحم، لا يتوقف، سيقع على رقاب هذه المليشيا، وسيكون عبرة لكل من يفكر في أن يمس شعبًا أو مكونًا أو طفلاً. العدالة ليست مجرد وعد، بل واقع حتمي لا يمكن الفرار منه، درس صارخ لكل من يظن أنه فوق القانون أو فوق الحساب.

أما الدول التي سلّحت ودعمت وموّلت وغمضت عيونها عن الدم، فسيأتي اليوم الذي تُفرم فيه صفقاتها، وتنكشف كل أكاذيبها، ويُحاسب كل من وقف مع الدماء بلا خجل أنه شريك بالجريمة. يوم لن يترك لهم ملاذًا، ولن يترك أي جرح بلا جزاء، ولن يترك أي مظلوم بلا حق، لأن النار التي أشعلوها ستعود إليكم أضعافًا مضاعفة، ولن يكون هناك مفر.

السودان الذي حوّلوا أرضه إلى مسرح للرعب، سينهض، وستسقط هذه العصابة، وسيكتب التاريخ أسماءهم بالسواد، وسيعرف العالم أن الدم الذي سفكوه لن يذهب هباء، وأن العدالة قادمة… كالسيف الذي لا يعرف الرحمة.
……………..
الشجاع سيعود… عودةً تخلع أبواب الظلم من مفاصلها.
وسيقتلع الحق المسلوب اقتلاعًا، حتى ترتجف المليشيا وداعموها من اسمه

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole