*الترابي ونظارة زرقاء اليمامة ضياء الدين بلال*

استمع عثمان ميرغني إلى الشيخ حسن الترابي في جلسة مسائية بمنزله، امتدت الجلسة لساعات، كان الشيخ خلالها يردد عبارة واحدة لا غير:
«إني أرى أشجارا تتحرك».

استعار الترابي نظارة زرقاء اليمامة، وترك عبارته معلقة في فضاء الغموض، من دون أن يحدد نوع الأشجار، ولا منطلقها، ولا وجهتها المقصودة. ولم يوضح لمن حوله، ولا لعثمان ميرغني تحديدا، إن كانت هذه الرؤية ثمرة تحليل واستشراف، أم معلومات موثوقة يستند إليها.

ولم ينقل لنا عثمان ميرغني في عموده المقروء ما خرج به من انطباع نهائي: هل كان الشيخ يتحدث بلسان التحذير والتنبيه، أم بصوت الشامتين الذين ينتظرون جثث الأعداء على ضفة النهر؟!

من الواضح أن الحديث بين الترابي وعثمان جاء في سياق التغييرات القيادية التي طالت أجهزة الدولة وهياكل حزب المؤتمر الوطني في 2013.
فمنذ فترة ليست بالقصيرة، ظل الترابي ملتزما صمتا محيرا ومريبا. مرت أحداث جسام، ولم تحظ بتعليقاته، ولا بتوقيعاته المعتادة على هوامش المشهد.
الذين يعرفون الرجل حق المعرفة يقولون: حين يصمت الشيخ، فإنه غالبا ما يكون في انتظار فعل أعلى صوتا من الأقوال.

ثمة مقدرة خاصة تميز الدكتور حسن الترابي عن غيره من السياسيين، تتمثل في قدرته على تغيير مجريات الملعب السياسي عبر الإشارات اللغوية وقذف الكرة يمنة ويسرة بمهارة لاعب مخضرم. كلمات معدودة في تصريح صحفي، أو ندوة جماهيرية، أو حديث جانبي هامس، كانت في العادة تمهد لحدث كبير، أو تؤذن بتحول جذري، أو تختزل تجربة مكتظة بالتفاصيل.

فاللغة، في القاموس السياسي للترابي، لم تكن مجرد أداة تواصل، بل سلاحا فاعلا قادرا على التغيير والانقلاب، مع مراعاة محاذير القانون وحدوده.
وبالرصد والمتابعة لتصريحاته الصحفية والجماهيرية، تتضح بجلاء طرائقه في استخدام اللغة للتمهيد لأفعال وأحداث قادمة .

دخل الرجل الملعب السياسي عام 1964 عبر نافذة اللغة، في ندوة سياسية بجامعة الخرطوم أعقبتها أحداث أكتوبر الشهيرة قال الترابي (النظام الحالي يجب أن يزال، وأن قضية الجنوب ستنتقل إلى الشرق والغرب إن لم يتم حلها، ويجب أن تحكم الدول الكبرى بولايات وتجتمع على الشأن العام).

وفي أواخر الثمانينيات، وقبل أشهر من يونيو 1989، وبعد إخراج الجبهة الإسلامية من حكومة الوفاق، نعى الترابي الديمقراطية الثالثة من الميدان الشرقي بجامعة الخرطوم.

وفي عام 1998، أطلق تصريحات عابرة عن ظهور بضع في المئة من الفساد في تجربة الإنقاذ، كانت في حقيقتها تمهيدا لانطلاق ماراثون الصراع بين القصر والمنشية، والذي انتهى بالفراق من غير إحسان.

ولا تزال عبارته الشهيرة: «اذهب إلى القصر رئيسا، وسأذهب إلى السجن حبيسا» من أبلغ العبارات التي لخصت علاقة الجبهة الإسلامية بثلاثين يونيو، وأكثرها قدرة على اختزال الغيظ الذي استقر في صدر الشيخ، حين أغلق البرلمان في وجهه، وسحبت مفاتيح القرار من بين يديه.

وفي فبراير 2001، في صالونه بالمنشية، عقب توقيع مذكرة تفاهم جنيف بين الحركة الشعبية والمؤتمر الشعبي، واندلاع تظاهرات الفاشر وموت طالبة تحت الأقدام، كان الترابي يحدثنا نحن مجموعة من الصحافيين بأن التغيير سيأتي إلى الحكومة من دارفور، لا من الخرطوم.

وقبل أحداث أمدرمان وهجوم خليل إبراهيم بساعات في 2008 ,كانت مانشيتات الصحف في الخرطوم تنقل من سنار رفض الترابي لتغيير النظام بالقوة.
يومها قيل إن الرجل كان (يؤشر شمالا ويلف يمينا).

شواهد كثيرة، إضافية ومتراكمة، تؤكد أن الدكتور حسن الترابي ظل دوما يستعين باللغة، بأوجهها المختلفة، في التمهيد والتفسير والتغيير والانقلاب، مستندا إلى حس درامي عال، وصلات وثيقة بمسرح السياسة، وقدرة لافتة على جذب الانتباه، وسرقة الكاميرا في اللحظة المناسبة.

وخلاصة الأمر أن الترابي لم يكن يرى السياسة بعيون الواقع وحده، بل بعدسة اللغة، يلوح بها قبل العاصفة، ويزرع بها الإشارات قبل التحولات.
وحين قال إنه يرى أشجارا تتحرك، لم يكن يصف مشهدا غامضا بقدر ما كان يمارس عادته القديمة: إطلاق اللغة لتسبق الحدث، وتفتح باب التأويل، وتترك الآخرين في انتظار ما سيقوله الواقع لاحقا بصوت أعلى.
*نشر المقال عام 2013.

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole