*من الجوار يأتي القتل: كيف تحولت الحدود القريبة إلى ممرّات لمسيّرات الموت*

تقرير _آفاق احمد محمد

ليس السؤال من الذي ضغط الزناد؟
فهذا معروف ومُوثّق ومرئي في صور المدن المحروقة وأجساد المدنيين.
السؤال الأخطر والأكثر تهربًا منه من الذي قرر أن هذا الشعب السوداني يمكن قتله؟
حين تباد قرى بأكملها وتُغتصب النساء وتحاصر الأطفال بالجوع ولا تتحرك الدول الداعمة إلا بحسابات باردة نكون أمام جريمة تتجاوز المليشيا نفسها.
نكون أمام عقل سياسي رأى في السودان ساحة اختبار وفي الدم أداة تفاوض وفي الصمت سياسة.
هذا التقرير لا يطارد الفاعل المباشر بل يتجه إلى الطبقة الأعلى من الجريمة.
طبقة الدول التي موّلت أو سهّلت أو صمتت، وهي تعلم أن النتيجة لن تكون استقرارًا ولا شراكة بل ابادة بطيئة لشعب كامل فما الفائدة التي تُقنع دولة بأن تراهن على المليشيا؟
أي مكسب سياسي أو اقتصادي يبرر قتل شعب، وتفكيك دولة، وحرق مستقبل أمة؟

هنا، لا نكتب بدافع الغضب فقط بل بدافع التفكيك
تفكيك منطق الدم، وعقلية المصالح القذرة، والوهم الذي جعل القتل يبدو خيارًا عقلانيًا في دفاتر السياسة ما الفائدة من قتل شعب؟
هذا هو السؤال الذي لا تحب الدول الداعمة أن يُطرح…
ولهذا نطرحه الآن

– وهم المكسب السريع_

دعمت بعض الدول المليشيا انطلاقًا من أكثر المعادلات السياسية فجاجة
قوة مسلحة منفلتة، بلا برلمان بلا رأي عام بلا محاسبة وبلا ضمير.
قوة يمكن تحريكها بالمال ووقفها بالمال وشراء ولائها بتسهيلات عابرة، دون أن تُطالب بشيء اسمه قانون أو دولة في حسابات تلك الدول، بدت المليشيا حلًا “عمليًا
لانها أسرع من الجيوش النظامية أقل كلفة من بناء مؤسسات.
وأكثر استعدادًا لتنفيذ الأوامر القذرة التي لا ترغب الدول في توقيعها رسميًا.
لكن ما لم يُحسب – أو ما جرى تجاهله عمدًا – هو أن المليشيا ليست أداة مستقرة، بل قنبلة مؤقتة
هي لا تنتصر، لأنها لا تعرف معنى النصر.
هي تُدمّر فقط ثم ترتد على من صنعها أو موّلها أو صمت عنها.
كل التجارب الإقليمية تشهد بذلك، لا كعظة أخلاقية، بل كحقيقة سياسية صلبة
المليشيا لا تبني استقرارًا، لأنها تقوم أصلًا على تقويض فكرة الاستقرار.
وجودها مشروط بالفوضى، واستمرارها مرتبط بانهيار الدولة.
ولا تحمي مصالح طويلة الأمد، لأن مصالحها آنية، نهبية، متقلبة، بلا التزام ولا ذاكرة سياسية.
اليوم معك، غدًا ضدك، وبعده تبيعك لمن يدفع أكثر.أما منطقها الوحيد فهو العنف.
عنف بلا سقف، بلا خطوط حمراء، وبلا حساب للعواقب.
وحين يُطلق العنف من عقاله، لا يعود أداة في يد أحد، بل يتحول إلى كيان مستقل يفرض منطقه على الجميع، بما فيهم داعموه.

النتيجة ليست نفوذًا ولا استقرارًا ولا مكسبًا استراتيجيًا
بل حرب مفتوحة بلا نهاية دولة محطمة لا يمكن الاستثمار فيها
شعب قوي لا يمكن إخضاعه ومليشيا لا يمكن ضبطها
الرهان على المليشيا لم يكن ذكاءً سياسيًا
بل كسلًا أخلاقيًا، وقصر نظر استراتيجيًا وجريمة محسوبة بدم الآخرين
وهم المكسب السريع…انتهى دائمًا إلى خسارة بطيئة، مكلفة، وملطخة بالعار

—عقاب جماعي

ماذا فعل الشعب السوداني حتى تقرر دولٌ بأكملها أن يكون قتله ثمنًا لمصالحها؟
أي جريمة ارتكبها هذا الشعب ليُحاصر بالجوع وتُحرق قراه، وتُغتصب نساؤه ويُذبح أطفاله فقط لأن دولًا طامعة رأت في أرضه غنيمة وفي دمه كلفة مقبولة؟
الشعب السوداني لم يعتدِ على أحد لم يعلن حربًا خارج حدوده ولم يهدد أمن دولة.
لم يفعل شيئًا سوى أنه وُجد فوق أرضٍ غنية ورفض أن تُدار حياته بالوكالة وأن تُنهب ثرواته تحت حراسة مليشيا مأجورة.
هذه الدول لم تقتل السودانيين لأنهم خطربل لأنهم عائق أمام أطماعها.
عائق أمام الذهب، والأرض، والموانئ، والمواقع، والقرار السيادي.
ولهذا سلّحت المليشيا ومولتها ومنحتها الغطاء وهي تعلم أن الرصاص لن يميز بين مقاتل وطفل ولا بين قرية ومعسكر نازحين.
قتلت الشعب لا لأنها مجبرة بل لأنها اختارت أن يكون الدم أداة من أدوات سياستها.
ما يحدث ليس حربًا أهلية بل عقاب جماعي لشعب تجرأ أن يكون صاحب وطن.
والسودانيون لا يُبادون لأنهم ضعفاء
بل لأنهم يقفون في طريق مشروع قذر قرر بعض الدول أن يمر فوق أجسادهم.

__هل ينام من موّل هذه المليشيا ليلًا؟

هل يغمض عينيه مطمئنًا بعد أن أغرقها بالمال والسلاح ثم تركها تنفلت على أجساد الأبرياء؟
وهل كان هذا التمويل بريئًا أم أن من دفع الثمن كان يعرف تمامًا ما الذي تطلقه البنادق حين تُسلَّم لمليشيا بلا قانون ولا إنسانية؟
هل من موّل المليشيا هو من حرّضها على الاغتصاب؟
ربما لم يكتب الأمر صراحة، لكن هل يمكنه الادّعاء أنه لم يكن يعلم؟
أن هذه المليشيا بطبيعتها وتاريخها لا تعرف سوى ارتكاب أبشع الجرائم اللا أخلاقية حين تُترك بلا رادع ولا حساب؟اغتُصِب شباب أمام أسرهم لإذلالهم وكسرهم
واُغتصبت طفلات قاصرات لم يعرفن من الحياة سوى الخوف.
واُغتصبت نساء في عمر الأمهات والجدّات، في مشاهد لا تنتمي للحرب بقدر ما تنتمي للوحشية المجردة.
هل هذا هو الورد الذي تُقدّمه الدول الداعمة للشعب السوداني ؟
هل هذا هو الثمن الذي رأت أنه مقبول مقابل مصالحها ونفوذها؟
أن يُحوَّل الاغتصاب إلى سلاح وأن تُستخدم الأجساد كساحة حرب وأن يُترك العار ليلاحق الضحايا بدل الجناة؟
من موّل هذه المليشيا لا يستطيع الاختباء خلف الجهل.
فالمال الذي لا يُراقَب، والسلاح الذي لا يُحاسَب يتحولان حتمًا إلى اغتصاب وذبح وإبادة.
وهذه ليست نتيجة غير متوقعة، بل جريمة معروفة المسارالدول التي دعمت المليشيا مطالبة اليوم بالإجابة لا بالبيانات هل كانت تعلم؟
وإن كانت تعلم فهل قبلت؟
وإن قبلت، فبأي حق تُنصّب نفسها شريكة في عالم يدّعي الدفاع عن القيم والإنسانية


__الصمت… حين يصبح شريكًا في الجريمة

ليست كل الدول التي شاركت في هذه المأساة سلّحت المليشيا بيدها،
بعضها فعل ما هو أخطر صمت
صمت طويل متعمد، محسوب اختبأ خلف أقنعة الحياد والدعوة للتهدئة بينما كان الدم يسيل بلا توقف.

هذا الصمت لم يكن جهلًا ولم يكن ارتباكًا بل خيارًا سياسيًا واعيًا
رهانًا باردًا على إنهاك الشعب السوداني على تجويعه حتى ينهار
وعلى كسر روحه حتى يقبل بأي واقع مفروض ولو كان قائمًا على جماجم أبنائه.
الأكثر فداحة أن بين هذه الدول من وقّعت على الحريات الأربع وملأت الوثائق بالكلام عن الحقوق والكرامة والتنقّل ثم خانت كل ذلك لحظة تحوّل السوداني إلى ضحية مفتوحة وقّعت على القيم بالحبر
ومزّقتها بالصمت أمام القتل والاغتصاب والحرق وهناك دول أخرى، نعرفها جيدًاليست بعيدة عنا صمتت صمت القبور حتي صراخ الاطفال وأنين الجوعي لم تصحو من نومها أكتفت بالتفرّج حين يجب التدخل واكتفت بالمشاهدة فقط
وعلامة غسل الأيدي بينما تُغمس الأيدي الأخرى في الدم.
لكن ما لم تدركه هذه الدول أن الشعوب لا تُكسر بالجوع، ولا تُروّض بالإبادة.
ما يحدث دائمًا هو العكس
الذاكرة لا تموت، الغضب يتراكم، والحساب لا يُلغى بالصمت ولا يسقط بالتقادم
الصمت في زمن الجرائم الكبرى ليس حيادًا،بل انحياز فاضح للجريمة
ومن اختار أن يصمت، فقد اختار موقعه بوضوح
في الصف الخطأ… وعلى الجانب الملطخ بالدم من التاريخ.

—مطارات مفتوحة تُصدِّر الموت إلى السودان… و«دول صديقة» تعبر منها شاحنات الدم والمرتزقة
ليست الحرب في السودان معركة داخلية كما يُراد لها أن تُقدَّر بل سوق مفتوح للموت يدار من مطارات لم تُغلق ومن طرق برّية لم تُراقَب ومن حدود تحوّلت إلى ممرات آمنة لشاحنات السلاح والمرتزقة.
الموت لا يصل صدفة… يُنقَل بعقود ويُختم بجوازات مرور رسمية ويعبر من بوابات يفترض أنها سيادية.
مطارات إقليمية تعمل ليلًا ونهارًا تهبط فيها طائرات شحن لا تحمل غذاءً ولا دواءً بل ذخائر طائرات مسيّرة وأفرادًا مدججين بالعنف تُفرَّغ الحمولات بعيدًا عن أعين الكاميرات ثم تُستكمَل الرحلة برًّا عبر شاحنات ثقيلة تعبر دولًا توصف بـ«الصديقة»، لكنها في الواقع شريكة بالصمت أو التسهيل.
هذه ليست تهريبًا بدائيًا على ظهور الجمال بل شبكة لوجستية كاملة
– تصاريح عبور وقود مدعوم– حماية على الطرق– صمت دبلوماسي يرقى إلى التواطء الرسمي

المرتزقة لا يدخلون السودان تهريبًا بل عبورًا منظمًا بجنسيات متعددة بعضهم خرج لتوه من حروب أخرى جُلب ليعيد إنتاج المجازر نفسها على أجساد السودانيين.
هؤلاء لم يهبطوا بالمظلات بل مرّوا من مطارات مفتوحة وختموا أوراقهم في دول تعرف تمامًا إلى أين يذهبون وماذا سيفعلون.
وحين تُسأل هذه الدول، تُجيب بلغة باردة نحن محايدون
لكن الحياد الذي يسمح بمرور السلاح والمرتزقة ليس حيادًا… بل اصطفاف مع القاتل.
كل شاحنة تعبر كل طائرة تهبط، كل طريق يُفتح هو رصاصة إضافية في صدر طفل واغتصاب مؤجَّل لامرأة ومقبرة جديدة تُحفر في دارفور أو كردفان أو الخرطوم.
السودان لا يُقتل فقط في ميادين القتال بل يُقتل في صالات الوصول وعلى الطرق الدولية وتحت أعين أقمار صناعية تعرف كل شيء وتختار أن ألا ترى.
هذه ليست حربًا أهلية.
هذه جريمة عابرة للحدود لها مطارات ولها طرق ولها شركاء يبتسمون أمام الكاميرات، بينما يفتحون بوابات الجحيم خلفها.

__الموت لا يعبر النيل سباحة

كلّ الذين استطلعتهم ــ مواطنين عاديين، خبراء سياسيين، مقاتلين في الميدان، وحتى أطفالًا خبروا الحرب قبل أوانهم ــ أجمعوا على حقيقة واحدة لا لبس فيها: المسيرات التي تحصد أرواح السودانيين لا تقلع من فراغ، بل تنطلق من دولٍ قريبة، دول تمدّ المليشيا بالرجال والسلاح والغطاء، ثم تتوارى خلف أقنعة الصمت أو الحياد.

والسؤال الذي يطرحه السودانيون اليوم ليس سياسيًا فحسب، بل أخلاقي وتاريخي: ماذا فعل لهم السودان وشعب حتى يُجازى بهذا الغدر؟

يعرف تاريخ هذه الدول ــ إن أرادت أن تتذكر ــ أن الشعب السوداني شعبٌ مضياف، مسالم، كريم، فتح أرضه وبيوته لكل من ألمّت بهم نكبة، ولم يسأل يومًا عن الثمن. بل إن دماء سودانية سالت دفاعًا عن أوطان غير وطنها، حين اصطف جيش السودان وقاتل إلى جانب جيوش تلك الدول ضد العدوان، دون منٍّ ولا مزايدة.

اليوم، يُقابل هذا التاريخ النظيف بطائرات موت، ومرتزقة عابرين للحدود، وسلاحٍ يُهرّب لتمزيق المدنيين. لكن ما يجب أن يُقال بوضوح: الجرائم لا تسقط بالتقادم، والتاريخ لا ينسى، والعدالة قد تتأخر لكنها لا تُلغى.

سيُسقى كلُّ ساقٍ بما سقى… وهذه ليست نبوءة، بل قانون أخلاقي صارم، كتبته تجارب الشعوب قبل أن تكتبه دماء الشعب السوداني

__في النهاية، لم يعد ممكنًا دفن الحقيقة تحت ركام البيانات الدبلوماسية. الموت الذي يسقط على رؤوس السودانيين لا يأتي من الغيب، بل يُصنَّع ويُمرَّر ويُسهَّل من جوارٍ يعرف جيدًا ماذا يفعل.

هذه ليست أخطاءً عابرة ولا سوء تقدير، بل اختيارات محسوبة دفعت ثمنها أجساد المدنيين وبيوتهم وذاكرتهم. وكل من فتح حدوده أو أجواءه أو صمته لهذا القتل، شريك فيه مهما تلطّف في الخطاب أو ادّعى الحياد.

السودان اليوم لا يطلب شفقة، بل يسجّل. يكتب بالأسماء، بالخرائط، وبدم الضحايا. فالتاريخ لا ينسى، والجرائم لا تسقط، والعدالة قد تتأخر لكنها لا تُهزم.

سيأتي يوم تُسأل فيه الجغرافيا عمّا فعلت بالإنسان، وتُحاسَب فيه الدول على ما سمحت به لا على ما أعلنته.

وسيُسقى كلُّ ساقٍ بما سقى… وهذه المرة لن تنفع المسافات، ولا الأقنعة، ولا لغة “الأشقاء” ولا الدم الواحد ……

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole