*نحو أفق بعيد (157) بقلم/الطيب صالح*

 

لماذا الجزع يا قلبي ؟ أما ودَّعت الأحباب من قبل ؟ أنسيت ان الموت أقرب إليك من حبل الوريد يجيئك من حيث لا تحتسب ؟ كأنك تمنيت أن يبقى بعدك ، يرثيك ويترحَّم عليك ، كان أوثَق صلة بربه وأصفى روحاً ، وأبلغ دعاء ، فياليته ظل وأنت ذهبت ، ولو كان الموت يقبل المُفاداة لكانت تلك قسمة عادلة .
إنما الله قاهر فوق عباده ، ومشيئته لا تُرد ، فالحمد لله .
جاءك الخبر الفادح على غفلة ، فزعزع أركانك ، واحسرتاه ، من لي بعدك بتلك الإبتسامة المضيئة ، وذلك الوجه الرضي ، كأنه مرآة مجلوة ، تعكس دخيلة قلب يفيض بالخير والمحبة وتقوى الله .
كان تاج السر محمد نور ، أخي وصديقي ، إبن عمتي وصهري من بقية النفر الأبرار الذين مشوا على الأرض هونا ، ونادتهم الحياة ونادوها بلسان المحبة ، الأصفياء الذين صابروا ورابطوا في الحِمى ، وظلت نيرانهم موقدة ، ولد في السراء فلم تُبطره السراء ، وحين تحول الزمان لم يأسَ على تحول الزمان ، مثل الجبل الأشم يمر به السحاب وتهبّ الأعاصير .
ما أوسع الحزن وما أضيق الكلمات ، وهذا عدْل نفسي بحق ، ألا يُعزِّيك أن تعلم انه رحل عن الدنيا قرير العين راضي النفس ؟ أما كان دائماً كأنَّه على أهبة السفر ؟ لم يتريث للوداع ، لم يلوح بيده ، لم يتلفت وراءه ، كان ذاهباً إلى لقاء ربه في صلاة الجمعة ، مقبلاً إليه بكلِّيته ، على أهبة الإستعداد للسفر ، في الطريق ، ثمة ، ناداه الصوت الذي تبعه منذ البدء ، إستجاب له ببساطة ، بلا جلبة ولا ضوضاء ، كان مُقدَّراً أن يتم الأمر على هذه الصورة ، فقد عبد الله في خفية .
عبد الله بخشية وخفية ، فلا تكاد تعرف طول عبادته ، ولكن سرّه كانت تفضحه الأنوار التي تلمع على وجهه .
نشأنا معاً منذ طفولتنا ، فقد كنَّا من سن واحدة ، يصغرني بعام ، كان الزمان جميلاً ، فتقاسمنا حلاوة الزمان ، وحين تغيَّر الزمان ، كان بعضنا يشد أزر بعض فلم نكترث لتغيُّر الزمان ، أولئك إخوَتي في العهد الأول ، هو وعلُّوب وسيِّد وابراهيم عباس مدَّ الله في أعمارهم .
وكان هو أسرعنا بذلاً ، وأصدقنا قولاً ، وأمضانا عزيمة ، وأرجحنا عقلاً ، وأكثرنا مرحاً ، وأصبرنا على الشدائد .
كانت فيه غبطة وفرح داخلي ، كأنَّه يتكتَّم نبأً ساراً ، وتلك السكينة لأنه أبداً لم يُجرِّب الإحساس بالذنب ، ومن أين يجيئه الإحساس بالذنب ؟ نشأ في طاعة الله ، أطاع الله ببساطة ، وكأنه لا يبذل جهداً ، وكأن سُبُل الحياة المحيرة قد سُدَّت كلها عليه ، وانفتح أمامه طريق واحد ، هو طريق الخير والصلاح ، فسلكه ، وظل يسير فيه إلى لقائه الموعود بربه يوم الجمعة .
من أين يجيئه الإحساس بالذنب ؟ لقد أوفى بالعهود كلها وأكثر ، برَّ بأبويه ووصل أرحامه ، ورضي عن الناس ورضوا عنه ، إستقبل القادمين وودَّع المسافرين ، وعاد المرضى ودفن الموتى ، وفى بنصيبه ونصيبي أيضاً ، يسد كل ثغرة أغفلتها ، وينهض بكل واجب تركته يقْبلني على علَّاتي ، ويَغُضْ الطرف عن هفواتي .
رجل ثابت في زمان مُتقلِّب ، كنتُ أغيب العام والعامين ، وحين أعود أجده كما عهدته دائماً ، داره تتسع قليلاً ، وأثاث بيته يتحسَّن قليلاً ، إنما أبداً لا تجد عنده آثار نعمة طارئة أو ثروة مفاجئة ، والدار أبداً عامرة بالناس ، عشيرتهُ وأصدقاؤه ، لا يكادون يتغيَّرون على مرور السنين .
عمل في مصلحة الجمارك وهو دون العشرين من عمره ، وظل يرقى الدرجات بفضل إخلاصه وجده وذكائه الخارق ، وتلك العناية الإلهية التي كانت تقود خطاه ، حتى وصل إلى أرفع المناصب ، وأصبح من قلة يُضرب بها المثل في الكفاءة وعفة اليد ، كان يقول انه قطع عهداً على نفسه ألَّا يطعم عائلته من المال الحرام ، وما كان أكثر المال الحرام .
ظلَّ من الصابرين المُرابطين في الحِمى ، مرة سافر إلى بعثة دراسية في معهد الجمارك في الإسكندرية ، ومرة ذهب مُعاراً من حكومة السودان إلى اليمن ، وخرج مرتين لأداء فريضة الحج ، غير ذلك لم يبرح السودان أبداً ، وأنا وأمثالي نضرب في البلاد ونجوب الآفاق .
شجرة وارفة تتفيَّأ ظلالها وتأكل من ثمارها ، تجلس إليه فتغرف من نبع لا ينضب ، كان قوي الذاكرة بشكل عجيب ، يحفظ القرآن والحديث والشعر الفصيح وشعر الدوبيت والتاريخ والأنساب والمُلح والطرائف ، يغمرك بروحانياته ، ويُنسيك عنت الحياة ، يجعلك تحس انك أفضل مما أنت في الحقيقة ، تحس ان مجرد وجوده في الدنيا يجعلها أكثر خيراً وأقل عُدْواناً .
رجل مصباحْ ، يكون قُدوة ويُضرب به المثل ، جاد به الزمان في لحظة من لحظات أريحيته النادرة ، فرفَّ مثل طيف جميل ، مثل الغيث في الربيع ، ثم مضى على عجل ويا للحسرة ، ولما استردَّ الخالق وديعته ، فكأنَّ الزمان عاد بخيلاً كعهده ، رحيله ورحيل الصالحين أمثاله ، علامة كما جاء في الأثر .
مضى إلى حياة أفضل إن شاء الله ، مع الصديقين والأبرار ، وأنا لي الله ، لأنه أغنى حياتي بحياته ، وأفاض عليَّ من بركاته ، فإنَّه برحيله قد أفقرني جداً ، وتركني أقلَّ مما كنت وأنا قليل أصلاً في ميزان الحق .
أُفٍّ للدنيا ، تُعطيك هَبَاء يحسبُه الناس هِبات ، والذي تُحبه يذهب ولا يعود ، ولا عزاء .
رحِم الله تاج السّر محمد نور ، وصبرٌ جميل والله المستعان ▪️

مقالات ذات صلة