الدكتور عبد الباقي عبد الله المكي (ت. 2024)
الاستفهام الأخير: “كيف يمكننا صناعة حبٍ نُحارب من أجله؟”
أحمد إبراهيم أبوشوك
(1)
كتب الدكتور عبد الباقي عبد الله المكي مقالاً رائعاً بعنوان: “هل يا تُرى؟ كيف يمكننا صناعة حبٍ نحارب من أجله؟”، قبل أربعة أيامٍ من تاريخ رحيله المؤلم في 28 أغسطس 2024، وقرظ ذلك المقال صديقه التاج ساتي سعيد، قائلاً: “ما يجعلني في حالة (اندهاش) دائمة كيف انتظر دكتور عبد الباقي كل هذه السنوات لكي يجود علينا بمخزون الإبداع، ويصنع لنا تماثيل الأحرف الأنيقة … لعل الذي أخَّره إلى هذا الحين من الدهر والعمر هو الانغماس بالكليات في العمل العام، والانشغال بالوظيفة التي تنحس الخيال… ولكن أن تأتي متأخرًا خيراً من أن لا تأتي. وأظن أن الإتيان متأخرًا له ميزة أن نتشارك الاستمتاع بحروفه، ونحن سويًا على دكة الاسترخاء.” لكن للأسف انتظار التاج ساتي سيطول على دكة الاسترخاء في زمن النزوح واللجوء البخس الذي فرضته الحرب اللعينة؛ لأن صديقه عبد الباقي قد ارتحل بصوت خفيض دون استئذان إلى الدار الآخرة، ومعه أدبه الرفيع وخلقه النبيل، ورؤيته الثاقبة بأن التآلف يشكل “قناطر التواصل وكباري الوصل”، التي “تنبع من قلوب صافية نقية بيضاء [من غير سوء]، مليئة بحب الخير للآخرين ومكتنزة بفضيلة الايثار، … تأخذ بالملعقة وتعطي بالكريق.” ويرى عبد الباقي أن “وراء هذا الصفاء البلوري والنقاء الفطري عقولاً نيرة بصيرة ومبصرة، كل منافذ الكره والكراهية” أمامها مغلقة تماماً.
(2)
كيف تُصنع العقول النيرة والقلوب البصيرة؟
إن العقول النيرة والقلوب البصيرة، يا سادتي، لا تُصنع في مصانع لانكشير (Lancashire) البريطانية، أو شنغهاي (Shanghai) الصينية؛ لكنها حسب رؤي عبد الباقي تُصنع وفق مناهج التعليم “المدركة تمامًا أن الإنسان هو رأس المال الحقيقي، والمدركة لما يجب أن يكون عليه حال المواطن القادم في مقبل الأيام” سواء كان طبيباً، أو أستاذاً جامعياً، ومهندساً، أو أي من أصحاب المهن والحرف المجتمعية؛ لكنه خصَّ من هؤلاء السياسيون، والخصوصية من وجهة نظره “نابعة من خطورة الحقد والكراهية والحسد والمناطقية والجهوية والقبلية والغلو والغرور لدى شخص صانع للألعاب ومحرز للأهداف.” والإشارة الخفية هنا إلى قادتنا السياسيين، الذين تنقصهم الخبرة ويفتقرون إلى الوازع الأخلاق تجاه قضايا الوطن الجريح، ولذلك يتمنى عبد الباقي ألا يكون السياسي “جحشاً” في تصريف شؤون الناس، أو “فرعوناً” فظاً غليظ القلب، ينفض الناس من حوله. فالسودان قد اكتفى من تجارب شذاذ الآفاق والظلمة التي أفسدت البلاد وشتت العباد. فالتعليم من وجهة نظره يغرس التآلف والمحبة في عقول الناشئة بخلاف السياسيين الذين يغرسون بذور الخلاف والكراهية والبغضاء بين الناس. والشاهد في ذلك أنه قد اصطحبنا في رحلاته الافتراضية المستقاة من قصيدة “سبل كسب العيش”، التي وضعها أستاذ الأجيال عبد الرحمن علي طه لطلبة المدارس الابتدائية. ويصف عبد الباقي تلك الرحلات الافتراضية بأنها كانت تلامس أطراف الواقع، ولذلك يقول: “فعندما نتجول مع صديقنا ود الفضل بين أشجار الهشاب في الجفيل، (ومن هناك قمت للجفيل ذات الهشاب النضر الجميل)، تكاد تلامس أصابعك كعانكيل الصمغ، وتتكرف أنفك رائحة لحاء أشجار الهشاب حديثة النزع. أما عند محمد قول فقد ارتجفت أيادينا واقشعرت أبداننا، ونحن نسحب سنارات الصيد، وتتفحص أعيننا ما علق بها من أسماك ملونة غاية في الجمال. واصابنا البحر بدواره، وبعضنا استفرغ ما بداخله من زلابية سيدة بابا رحمها الله، لما لا وقد ركب الخيال سرج الواقع وترادفا خيلاً وفارساً… وأطربنا منقو زمبيزى وهو يدندن وينقرش بأصابعه الأبنوسية على أوتار ربابته الجميلة، الموتّرة بجلد بقرة دٌفعت في سابق عهدٍ مهراً لوالدته…فخلّد ذكرى (المودة والمحبة).” وتتجلى عظمة المناهج الدراسية المدركة لقيمة الإنسان عندما ينقلنا عبد الباقي إلى مشهد ميري الجنوبية التي انفجرت بكاءً مراً عندما رفضت خالتها أن تشترى لها أصابع الموز الصفراء من أحد الخضرجية. ويقول عبد الباقي: ميري “بين البكاء والأسى هرول نحوها هذا الأسمر فارع الطول، يحمل إليها أصبعين من الموز، ويواسيها ويبلسم دواخلها.” كلما تتذكره ميري من هذا المشهد الإنساني وجه صاحبنا الصبوح وعلى خديه علامة (H). ويقول عبد الباقي عرفت ميري مؤخراً “أنه واحد من الذين حفظوا صداقتهم مع منقو زمبيزى.” لعمري هذا خيال بديع، ومناهج تعليميه تعكس طرفاً من غرسها في عقول بعض الطلاب، الذين أضحوا يأخذون بالمعلقة ويعطون بالكريق أمثال الراحل عبد الباقي عبد الله المكي، وذلك بخلاف نقائضهم الذين يأخذون بالكريق ويعطون بالمعلقة، ولذلك أفسدوا البلاد وشتتوا العباد.
(3)
الإنسانية في قاموس عبد الباقي
نلتمس هذه الإنسانية في اللوحة القلمية الرائعة التي رسمها عبد الباقي عن ميري الجنوبية التي عاشت سنوات حياتها الأولى في الخرطوم، ثم ارتحلت إلى مدينة سدني في أستراليا. وينقل عبد الباقي على لسانها قولاً بليغاً، يجسِّد قيمة من قيم الإنسانية والوفاء: “أنا الآن في سدني واحدة من أجمل المدن الأسترالية؛ ولكنني ما زلت أحن لذرات غبار الكادحين في الشوارع، ورائحة شواء عرق والدي المحروق بأشعة شمس يوليو في نهارات الخرطوم الملتهبة. كم أحبك يا سودان.” ويتنقل عبد الباقي من هذا المشهد المفعم بقيمة الوفاء إلى أرض الوطن، قائلاً: “لن تعرفوا قيمة الوطن طالما أنتم شبعي، آمنون مطمئنون، لن تعرفوا قيمة الوطن طالما أنتم تتنابزوا لونًا وعرقًا وثقافةً. لن تعرفوا قيمة الوطن وأنتم فاسدون مفسدون لغيركم، لن تعرفوا قيمة الوطن وأنتم تفاخرون بانتماءاتكم [القبلية والعنصرية] … يا أهلي في السودان الكبير لقد عكرتم صفاء الخرطوم. فصفَّر قطار النهايات السعيدة مغادراً؛ ليصفِّر قطار الشؤم معلنًا دخولها حاملًا في جوفه دمار العمار… يا ميري أقولها لك بصريح العبارة لن ينصلح الحال ونحن على ظهر الأرض. فقد دُمٌرت نفوسنا قصدًا وسذاجةً، وانطفأت في دواخلنا المصابيح الزواهر فأُعتمت. وتعلمنا كيف ننصب لبعضنا البعض (شرك أم زريدو)، ونقج شروك (الهبروكية)، إذا (لا خير فينا).” هذا اعتذار بليغ أيا أيها الراحل المقيم، يشكل طرفاً من أطراف استفهامك الأخير: “كيف يمكننا صناعة حبٍ نُحارب من أجله؟”
(4)
عبد الباقي وانفصال الجنوب
يواصل عبد الباقي رحلته الافتراضية مع منقو زمبيزي، قائلاً: اكلنا مع منقو البفرة بلبن البقرة، يا لها من وجبة ما زال طعمها في حلوقنا، وأصدقكم القول لقد غسل بعضنا أياديه، فرائحة اللبن ظلت عالقة بالأيادي وازعجتنا كثيراً… انظر كيف فرقت هذه النقطة بين بفرة وبقرة… وفُرٌق بيننا شمالًا وجنوبًا، ولا يزال شبح التفرقة وسيفها مسلطا على رقابنا.” ثم يمضي ويقول: “وكأن من صاغ هذا المنهج التربوي المتفرد كان يرى بعينٍ بصيرة حال السودان الكبير، وتباين ثقافاته وأعراقه وأعرافه، وكلها عوامل تفرقه، إن لم تُسيَّج بالمحبة وتُنسج بقيم الإنسانية وتسقى لبنًا صافيًا دسمًا يغذى روح التسامح والتصافي واحترام الآخر.” كأن عبد الباقي يقول من زاوية أخرى أن غياب التسامح والإدارة الراشدة للتنوع الذي فرضه واقعنا المعيش سيفضيان إلى تقسيم السودان وتمزيقه في ظل القيادة السياسية التي تعرف غير التحشيد والتحشيد المضاد، وغرس بذور “الهويات المميتة”، كما يسميها أمين معلوف. وتُشبه المحبة التي كان ينشدها عبد الباقي المحبة المبثوثة في روايات الطيب صالح. ولذلك يقول الطيب “يوم ينادي المنادي، قائلاً: “عبدك المسكين الطيِّب ود محمد صالح ولد عائشة بنت زكريا يقف بين يديك خالي الجراب، ومقطع الأسباب، ما عنده شيء يضعه في ميزان عدلك سوى المحبة.” فنسأل الله أن يجعل المحبة التي عاشها عبد الباقي طولاً وعرضاً في ميزان حسناته الراجح؛ لأنها كانت محبة منبسطة للجميع، لا يسعها حيز جغرافي، ولا تحدها روابط صلب وترائب، بل كانت منداحة بقدر اندياح صاحبها في حب الآخرين، الذين بادلوه حباً بحبٍ.
(5)
خاتمة
لا أطيل عليكم في الاقتباس وإلقاء الإضاءات على مقال عبد الباقي الفخيم، الذي يجب أن يُقرأ مثنى وثلاث ورباع؛ لأنه يحمل أكثر من رسالة مفيدة في هذا الزمن العبوس، الذي شتت أهل السودان بين آهات النزوع ومتاهات اللجوء، ومن أهمها قوله: “إن كان هنالك خيرًا في سلطة قادمة” فالمطلوب منها وضع منهج تعليمي “يربى أطفالنا على الفضيلة والإيثار، وحب الخير للآخرين؛ لتسموا نفوسهم محلقة متعانقة حبًا وايثارًا، عسى ولعل يأتي يومًا نسود فيه العالم فضيلة وإنسانية.” ألا رحم الله الدكتور عبد الباقي عبد المكي رحمة واسعة بقدر ما قدم، فعبد الباقي رجل لا نُعزي فيه، ولكن فيه نُعزى.