هذه التأملات تهدف للإسهام ولو قليلاً في ازالة الجفوة بين قوى التقدم والاستنارة ودعاة السودانوية وبين الأستاذ والعالم الجليل والمفكر الدكتور عبدالله الطيب وإسهاماته العظيمة في حقل اللغة وعلوم الدين والثقافة وانتباهاته الجادة والمؤثرة في قضايا ذات صلة بالتاريخ وعلم الاجتماع والآثار.
انحاز البروفسير عبدالله الطيب بلا مواربة للعامية واللغة الدارجة العربية السودانية وعظم من شأنها بفصاحته البليغة وتدفق علمه وزرابة لسانه المبين مقابل اللغة العربية الفصحى، وتمسك بأصالة الدارجة واللغة العربية العامية في السودان دونما تضاد مع الفصحى وحفر عميقاً في استبيان جذور الدارجة السودانية من الأصول اللغوية العربية الفصحى. انحاز الأستاذ عبدالله الطيب للبيئة المحلية وهو المعاصر والحداثوي علماً في سنوات دراسته، وقد ذهب إلى اوربا في وقت مبكر وعاد دون انبهار او اغتراب في وقت كان عالمنا يعاني من العزلة والتخلف.
على الرغم من امتلاكه ناصية اللغة ومعرفته بعلوم الدين لكنه لم يستخدمها لأغراض سياسة او لاكتناز المال في وقت عمد فيه الكثيرين لاستخدام سطوة البترول والدولار في تسويق بضاعتهم الاقل شأنا في بلدان (البترودولار)، وكانت خياراته في العمل خارج السودان ذات معنى ودلالات فقد اختار دولتي المغرب ونيجيريا بلدان الفقراء انذاك فياله من اختيار موحي يكشف عن ابعاد شخصيته. عُرِف بسرعة البديهة والدعابة والفكاهة وكان الأبعد عن التزمت والتشدد والأقرب في تناوله وشرحه للدين واللغة لغمار الناس وذو نزوع سودانوي في شروحاته الوفيرة، وينتمي للإسلام السوداني وجذوره الصوفية العميقة. وسوف اورد في جزئي هذا المقال مزيد من الأمثلة والاستشهادات على ذلك، ولا يهدف هذا المقال لمحاكمة مسيرة البروفسير عبدالله الطيب الطويلة ومواقفه من بعض القضايا التي لا تجد الإجماع وادّت إلى نقد العديدين له وان اراد المقال ذلك لن يستطيع، وانما القصد منه ضرورة النظرة الجادة والرصينة في بحث موقفه من قضايا السودانوية.
(٢)
عبدالله الطيب عبد الله الطيب محمد احمد المجذوب وُلد في ارض المجاذيب في ٢ يونيو ١٩٢١ في قرية التميراب غرب مدينة الدامر وتجمر بنار المجاذيب وتقابة قرآنهم ودينهم السمح ونما وترعرع كصناعة محلية ووطنية خالصة، أخذ وأعطى من العالم المديد ولكن ظلت رواسيه قوية وحبالها صلبة تربطه بأرض السودان والناس الذين خرج من نواصيهم، توفي في ١٩ يونيو ٢٠٠٣ في نفس الشهر الذي ولد فيه وقد كان أستاذاً جامعياً وكاتباً وشاعراً ومؤلفاً ومتخصص في اللغتين العربية والإنجليزية، ويعد (المرشد لفهم أشعار العرب) من المراجع الأدبية في العالم العربي لدراسة الشعر العربي القديم، وخاصةً الجاهلي، وقد كتب بأسلوب علمي دقيق، لكن يحمل روحًا أدبية قوية وروحًا سودانوية واضحة في بعض تجلياته، ويكفي ان الدكتور طه حسين قد قدّم له “المرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها”، قالاً : “وإني لأسعد الناس حين أقدم إلى القرّاء الأستاذ عبد الله الطيب، وهو شاب من أهل السودان، يُعَلِّم الآن في جامعة الخرطوم، بعد أن أتم دراسته في الجامعات الإنجليزية، وأتقن الأدب العربي، علما به وتصرفا فيه، كأحسن ما يكون الإتقان، وألف هذا الكتاب باكورة رائعة لآثار كثيرة قيمة ممتعة إن شاء الله”.
ومن دواوينه الشعرية (أصداء النيل) ١٩٥٧ و(سقط الزند الجديد) ١٩٧٦، و( أغاني الأصيل) ١٩٧٦، والف وكتب (سمير التلميذ) للتعليم الأساسي وكلمات من فاس وشرح اربعة قصائد لذو الرمة ومن حقيبة الذكريات والنثر الفني الحديث في السودان والأحاجي السودانية التي ترجمها للغة الإنجليزية مع زميله مايكل ويست والمرشد لفهم أشعار العرب وصناعتها من خمس مجلدات ومع ابي الطيب والطبيعة عند المتنبى، وقد سُجل برنامج دراسات القرآن الكريم من ١٩٥٨-١٩٦٩ ونقل عبر إذاعات تشاد ومالي والصومال وموريتانيا وأُحتفظ به في مكتبة الكونغرس الامريكية، وله مسرحيات شعرية مثل زواج السمر والغرام المكنون ونكبة البرامكة، وله مئات المحاضرات العامة ومقالات في مجلات عديدة من ضمنها دراسات القرآن واللغة التي كان يحضرها ملك المغرب الحسن الثاني وهو يجلس في تواضع بجانبه، وقد كان له تأثير واسع في نيجيريا والمغرب وتلاميذ وعلماء كثر أخذوا من علمه.
كان والده شاعراً ومثقفاً وحافظاً للقرآن وعمل بمدينة كسلا وكان شديد الحب له والعناية بتعليمه، ووالدته السيدة عائشة جلال الدين وجدته كانت أمرأة شديدة البلاغة وقوية الشخصية كما ذكر.
بروفسير عبدالله الطيب انتاج خالص من ريف السودان وعظمة إنسانه وإمكانية صعوده لاعلى المراقي، وقد ذكر انه زار الخرطوم للمرة الأولى في ١٩٣١ مع والده الذي اصطحبه لحديقة الحيوان ورأى للمرة الأولى حيوانات لم يراها من قبل مثل حيوان اللاما، وقد ذكر لاحقاً ان المناهج التي تعلم الطلاب في سن مبكرة بعيدة عن بيئتهم ومحيطهم وهي إشارة مهمة، فقد كانوا يقرأون عن اللاما والفيل ولا يعرفونها. وفي سنواته المضيئات في بخت الرضا ساهم في تقريب المناهج من الواقع والبيئة المحلية مستنداً على دراسة رفيعة من جامعة لندن في كلية التربية، وله حوارات شيقة حول قضايا المناهج مع التلفزيون والإذاعة السودانية. اهتم بروفسير عبدالله الطيب بالأحاجي السودانية ودروها في غرس القيم وتفتيح الآفاق عند الأطفال.
توفي والده وهو صغير ولم يكن الحصول على تعليم مجاني إلا باستحقاق وتفوق، ولم يدرس عبدالله الطيب بالمحاباة او الامتيازات التاريخية وقد تفوق في الرياضيات وكانت مصدراً لامتنانه لانها ألحقته بالتعليم المجاني، وقد حكى عن رحلته من الريف إلى المدينة في ذاك الزمان الصعب.
بعد وفاة والديه طلب منه خاله ان يترك الدراسة ويذهب للعمل في السوق ولكن جدته بشخصيّتها القوية قد رأت فيه علامات النبوغ والمستقبل الزاهر فرفضت ذلك واصرت على استمراره في التعليم، وهي إشارة لدور النساء القوي في مجتمعنا سيما الريف ونفوذهن الواسع في بعض جوانب الحياة.
(٣)
في سنوات الصبا الباكر وفي شهر رمضان كنا ندير مؤشر الراديو نحو إذاعة امدرمان بحثاً عن الدراما والأغاني، وامي وحدها في المنزل كان برنامجها الثابت هو ( دراسات في القرآن الكريم) للبروفسير عبدالله الطيب وبمصاحبة المقريء المتميز الشيخ صديق أحمد حمدون، وقد سألت امي فاطمة عالم في ذاك الزمان وبعد مرور سنوات عن محبتها لبرنامج البروفسير عبدالله الطيب وقربه من وجدانها وهي أمرأة لم تتلقى تعليماً نظامياً ولكنها كانت صالحة وفالحة، ذكرت لي لانه يشرح القرآن بسهولة ويسر.
أسهم البروفسير عبدالله الطيب في نشر دارسات القرآن على نحو واسع وقربه لنفوس الناس العاديين اكثر مما أسهمت سنوات الاستبداد المنفره باسم الدين، وهو نموذج مغاير لم يتاجر بالدين قط.
بروفسير عبدالله الطيب العالم والمفكر العظيم يجذبني بعمق ولا أزال اتابع كثيراً من ارثه الموثق وهو ارث جدير بالتأمل وذو صلة وثيقة بالسودانوية.
(٤)
من وقت لاخر أتبادل مع الاستاذة احسان القدال بعض المقالات التي تتناول قضايا فكرية وسياسية، ومؤخرًا أرسلت لي مقال هام كتبه الدكتور سعد عثمان مدني بعنوان ( أصول القبائل السودانية في الوسط والشمال: ونقد فرضية الهجرة العربية وإعادة قراءة الهوية الكوشية) وقبل قراءتي للمقال قمت باستعراضه بسرعة لمعرفة إذا ما اشار كاتبه للبروفسير عبدالله الطيب وهو أول من اختبر هذه الفرضية واشار اليها بذكاء لا يبارى، وسجلت رسالة صوتية للأستاذة احسان ذكرت فيها ” ان هذا المقال مهم ولم اطلع عليه من قبل، وتسألت هل أتى كاتبه بالفرضية التي قالها البروفسير عبدالله الطيب وهو شخص عجيب وأول من طرح هذه الفرضية وبحرفة اكاديمية حول إذا ما كانت القبائل العربية قد اتت من خارج السودان، وان صح ذلك فكيف تسنى لجميع القبائل التي في حدود السودان ومداخله الخارجية كالبحر الأحمر وأقصى الشمال والغرب والجنوب لغاتها من الأم لا تشمل اللغة العربية، بينما القبائل في الوسط لغتها الوحيدة ولغة الأم هي اللغة العربية، واستنتج ان إنسان الوسط قد استعرب ولم يأتي من الخارج والا لتركوا تأثيرهم في الحدود والمداخل وهو سؤال ذكي ومفتاحي، وللبروفسور عبدالله الطيب اهتمامات كثيرة عن الصحابة والدين وتأثير السودان بمعناه العريض في الهجرة وأصول بعض الصحابة وهو أمر يؤكد ضرورة اعادة النظر في حق البروفسير عبدالله الطيب وتجليات الفكر السودانوي في كثير من القضايا التي تناولها، وقد وجدت بالفعل ان الدكتور سعد عثمان مدني قد استند في مقاله إلى حديث البروفسير عبدالله الطيب مع مراجع أخرى”
وقد كان رد الاستاذة احسان في رسالة صوتية ” هذا المقال أعجبني كثيراً وفعلاً سؤال عبدالله الطيب مهم وهذه القصة يجب التركيز عليها لانها تخرج الناس من الانقسامات ومن المأزق الحالي، واعتقد بان الدكتور عبدالله الطيب لانه أكاديمي وليس له علاقة بالسياسة قد تم الهجوم عليه ولكنه قدم الكثير للمعرفة والعلم ويجب المواصلة في هذا الاتجاه لحل ازمة السودان المستعصية”.
ان هذه الفرضية التي كان رائدها البروفسير عبدالله الطيب وتناولها اخرين ومن ضمنهم الدكتور سعد عثمان مدني حول الأصول الكوشية والمروية لقبائل وسط السودان والشمال النيلي، قضية فكرية ذات صلة عميقة بالبناء الوطني والمصالحة بين السودانيات والسودانيين وفتح آفاق جديدة للبناء الوطني، ولنا عودة أخرى في تأملات في تجليات السودانوية عند بروفسير عبدالله الطيب.
٨ يونيو ٢٠٢٥