*تخوفات من مهددات أمنية كبرى بعد فرار نزلاء السجون*
بعد أن قضى ثلاثة عشر شهراً بمدينة الهُدى الإصلاحية المعروفة باسم سجن الهدى، على خلفية اتهامه في قضية تحت المادة (١٣٠ ـ القتل العمد) من القانون الجنائي السوداني، وجد (م) نفسه خارج أسوار السجن، لكن ليس كمتهم نال براءته بحكم القانون، بل كسجين مجبر على الهروب من مخاطر الأحداث العنيفة التي شهدها سجن الهدى عقب اقتحامه من قبل قوات عسكرية ترتدي زي قوات الدعم السريع وفقاً لشهادته وشهود آخرين كانوا نزلاء بالسجن.
*تفاصيل القصة*
يقول (م) إنه أُحضر إلى ”الهدى“ في شهر إبريل ٢٠٢٢م بعد اتّهامه في قضية قتل عمد، واستمرت جلسات محاكمته لتسعة أشهر، وكان يأمل أن يُصدر القاضي قرار الإفراج عنه بعد عدم ثبوت التهمة عليه، لكن اندلعت الحرب وحالت بينه وبين آماله في الإفراج عنه بحكم قضائي.
قال إن في أول أيام الحرب لم يتحصَّل نزلاء سجن الهدى على طعامهم مثلما كان يحدث في الأيام العادية، وتقلَّصت كمية الطعام لرغيفة واحدة للفرد في اليوم الثالث من الحرب، بعدها احتج السجناء لدرجة أن مدير عام السجون قام بزيارتهم وتعهَّد بحل كل المشاكل الإدارية وتوفير المأكل والمشرب لهم.
يضيف (م): ”عندما علمت شرطة السجن بأن هنالك قوات تتبع للدعم السريع تنوي الهجوم على السجن تعاملت معنا بعنف مفرط وحُبسنا داخل العنابر وأطلقوا علينا قنابل الغاز المسيل للدموع لكي لا نخرج“.
*من الذي هاجم ”الهدى“؟*
تقع مدينة الهدى الإصلاحية ـ سجن الهدى، غربي مدينة أم درمان في مساحة تمتد حوالي مليوناً وتسعمائة ألف متر مربع، هذا السجن مصمم لاستيعاب عشرة آلاف نزيل، وكان في السابق قد خصص لاستقبال الموقوفين على ذمة تعاملات مالية، ولاحقاً أضيف له المتهمين في قضايا جنائية كالقتل والسرقة والمخدرات.
وفقاً لشهادة بثَّها على مواقع التواصل الاجتماعي، قال محمد آدم توباك، وهو أحد نزلاء سجن الهدى وكان قد اتُّهم في وقت سابق مع خمسة آخرين في قضية مقتل العميد بقوات الاحتياطي المركزي علي بريمة، قال إنه وفي حوالي الساعة التاسعة صباحاً من يوم عيد الفطر، دخل عليهم أفراداً يتبعون لشرطة السجن، وحين استفسرهم النزلاء عما يجري بالخارج قالوا لهم إن هنالك مظاهرات داخل السجن.
يضيف توباك: بعد ذلك جاء أفراد آخرين أخبرونا بأن قوات الدعم السريع هاجمت السجن وطلب أفراد الشرطة منا إعطاءهم ملابس حتى يخرجوا بها، ومن ثم فُتحت البوابات ليخرج جميع النزلاء.
وبمقارنة شهادة (توباك) مع شهادة (م) وعدد من شهادات نزلاء آخرين فروا من سجن الهدى وانتشرت لهم تسجيلات على مواقع التواصل؛ وجدنا تطابقاً كبيراً بين رواياتهم.
بيد أن (م) أضاف في حديثه في المقابلة التي أجرتها معه (عاين) إن القوة المهاجمة قامت بإطلاق قذيفة من عيار (آر بي جي) داخل محيط السجن، ومن ثم شهد المكان اشتباكاً عنيفاً بالرصاص بين شرطة السجن والقوة المهاجمة، وعندما تمكنوا من الخروج لم يتعرَّض لهم أفراد قوات الدعم السريع الواقفون بالخارج، فقط كانوا يطالبونهم بالخروج رافعين أيديهم لأعلى، ويسألونهم عما إذا كان بينهم شرطيين.
وأكد على أن عدد سبعة من نزلاء السجن يتبعون للدعم السريع حرروا عند اقتحام السجن، وتم تسليحهم في نفس اللحظة.
وفرَّ من سجن الهدى بعد اقتحامه حوالي ثمانية آلاف وستمائة نزيلاً، منهم حوالي ألفين وثمانمائة محكومين بالإعدام، وحوالي ثلاثة آلاف وسبعمائة متهم (على أقل تقدير) في قضايا القتل العمد.
*اتِّهامات متبادلة*
تبادل أطراف الصراع الاتهامات حول حوادث اقتحام السجون وفِرار المساجين، حيث قال قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في تصريحات له بتاريخ ٢٢ أبريل ٢٠٢٣ إن هنالك مجموعة من الدعم السريع اقتحمت سجن الهدى وقتلت حراسه.
وفي بيان صادر من المتحدث باسم الجيش أكد على أن الاعتداء على السجون وإطلاق سراح النزلاء يشكل تهديداً للأمن.
بينما نفى المكتب الإعلامي لقائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو صلة قواتهم بالهجوم على السجون، وقالت الدعم السريع بأن قوات الجيش السوداني ارتدت أزيائهم لتنفيذ جرائم وإلصاقها بهم.
*لماذا اقتحموها؟*
في إفادته لـ (عاين) لمعرفة أسباب الهجوم على السجون، قال الرائد شرطة معاش الطيب عثمان يوسف إن معرفة أسباب الهجوم وتحرير النزلاء تتوقف على معرفة المستفيدين من هذا الفعل.
ووفقاً لتحليله فإنه يؤكد على أن هنالك مجموعات مختلفة الأهداف لديها مصلحة متباينة في الهجوم على السجون وإطلاق سراح السجناء.
ويُصنِّف (يوسف) هذه المجموعات إلى ثلاث، أولها المتهمين بالقتل الذين تمت إدانتهم بحكم الإعدام على كل مستويات التقاضي، ما عدا قرار المحكمة الدستورية، مثل المدانين بتعذيب وقتل الأستاذ أحمد الخير في فبراير ٢٠١٩ بمدينة خشم القربة شرقي البلاد، ويبلغ عددهم ٢٩ متهماً يتبعون لجهاز الأمن والمخابرات السوداني، ويرى أن هذه المجموعة هي الأكثر استفادةً من كسر واقتحام السجون.
كما أن هنالك نظاميين أُدينوا مؤخراً بقتل متظاهرين خلال الاحتجاجات التي شهدتها الخرطوم إبَّان الانقلاب العسكري الذي نفذه قائد الجيش عبد الفتاح البرهان في أكتوبر ٢٠٢١، ويعطي الطيب عثمان يوسف مثالاً بضابط الشرطة الذي كان قد اتُّهم بقتل متظاهر من مسافة قريبة بشرق النيل في فبراير ٢٠٢٣.
كما أن هنالك مجموعة كبيرة من أعضاء وقيادات حزب المؤتمر الوطني الذين أُلقي القبض عليهم بعد سقوط نظام الإنقاذ في أبريل ٢٠١٩ وجرى حبسهم على ذمة عدة قضايا أكبرها تقويض النظام والانقلاب على الدستور.
أما المجموعة الأخيرة فيقول إنها تضم عدداً من أفراد قوات الدعم السريع ومتهمين في جريمة فض اعتصام القيادة العامة للجيش السوداني، ويشار إلى أن جهاز المخابرات قال في تغريدة عبر صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي x” ـ تويتر سابقاً“: «الجيش السوداني يحرر اللواء ركن الصادق سيد، والعميد عثمان عوض الله، من معتقلات الدعم السريع بعد اعتقال دام أربعة سنوات».
وأظهرت مقاطع مصورة اللواء الصادق سيد وهو يرتدي زي القوات المسلحة منخرطاً في عمليات القتال بالخرطوم.
وتحتجز قوات الدعم السريع كل من اللواء الصادق سيد، والعميد عثمان عوض الله ”ود القبائل“، على خلفية قضية فض اعتصام القيادة العامة للجيش في ٣ يونيو ٢٠١٩.
ويرى الرائد شرطة معاش الطيب عثمان يوسف أن القدر الأكبر في الاستفادة من الهجوم على السجون يقع في مصلحة الحركة الإسلامية الطامحة في استرداد السلطة.
وشهد سجن كوبر الواقع بمدينة بحري حادثة هجوم مشابه لباقي سجون العاصمة، وتكمن أهمية ”كوبر“ في أنه السجن السياسي ويضم عناصر من قادة نظام الإنقاذ على رأسهم الرئيس المعزول عمر البشير.
وتضاربت الأقوال حول مصير الرئيس المعزول ورموز نظامه بعد اندلاع الحرب وخروجهم من سجن كوبر، حيث قال الجيش إنه يتحفظ بهم في مستشفى السلاح الطبي، لكن تتباين الشهادات حول أماكن تواجدهم الحالية، حيث تم رصد قيادات إسلامية بولاية القضارف شرقي السودان في أغسطس الماضي.
*أين الشرطة؟*
الرائد شرطة معاش الطيب عثمان يوسف يلقي باللوم على وزارة الداخلية وإدارة الشرطة ويحملها مسؤولية الفراغ الأمني الذي حدث بعد الحرب، مبرراً ذلك بأن وزير الداخلية الفريق خالد حسان ومدير عام الشرطة عنان حامد لم يصدرا بيانات رسمية لتوضيح موقف الشرطة خلال الحرب، وأنها سوف تعمل وفقاً للقانون الدولي والإنساني، وإعلان أن الشرطة هي قوة مدنية مستقلة ليست لديها علاقة بالنزاع القائم.
ويؤكد بأن هؤلاء القادة إذا كانا اتخذا هذه الخطوة، سيعلم أطراف النزاع أن الشرطة غير منحازة لأي منهما، حينها لن تصنف كعدو.
وفي إفادته عن استعادة مسار القانون وإعادة المتهمين الهاربين إلى السجون مرة أخرى يقول الطيب عثمان: هذا الأمر متعلق بالسياق الأمني العام، فإذا لم تتوقف الحرب لا يمكن تطبيق القانون على السجناء الفارِّين.
ويستبعد قدرة الشرطة على إنفاذ القانون، مستنداً في ذلك على أن كل رموز نظام الإنقاذ الذين كانوا سجناء قبل الحرب هم أحرار الآن في مدن تتواجد فيها قوات الشرطة ولم تتم مساءلتهم.
ويبدي (يوسف) تخوفه من ظهور ما أسماها بمليشيا شرطية موازية تحت قيادة قوات الدعم السريع.
وشكلت قوات الدعم السريع مؤخراً جهاز شرطة أسمته (الشرطة الفيدرالية)، ودعت ضباط وضباط الصف إلى الانضمام إليه، وذكرت أن الجهاز سيباشر مهامه انطلاقا من العاصمة الخرطوم ومن ثم سيعمل في بقية ولايات السودان.
*منظمات إجرامية*
بعد حوادث الهجوم على السجون، تحرر آلاف السجناء الذين كانوا محتجزين على خلفيات قضايا متعددة.
ولهذه الحوادث تداعيات وآثار كبيرة على الوضع الأمني والقانوني، ويعتقد الرائد شرطة معاش الطيب عثمان يوسف أن لذلك أيضاً آثار سياسية تتمثل في تخليص المتهمين السياسيين وقتلة المتظاهرين من قبضة القانون.
ويقول عن انتشار الجريمة: إن في بداية الحرب تكن جرائم السرقات والسطو المسلح وحرق الأسواق تتم من قبل قوات الدعم السريع، بل من قبل أصحاب تجارب وسوابق إجرامية. ويرى أن هذه الأزمة تضاعفت بسبب الفراغ الأمني وعدم انتشار قوات الشرطة، مضيفاً: تعززت التعديات بوجود طبقات اجتماعية مسحوقة أنتجتها الحروب والإفقار وعدم التوزيع العادل للثروات.
ويلفت النظر إلى أن هنالك نساء أيضاً انخرطن في عمليات السرقة، وقد كن نزيلات في السجون، ومعظمهن كان يتم توقيفهن على خلفية قضايا بيع الخمور البلدية أو الدعارة أو السرقة.
وقد شهدت كل الأسواق الكبرى بولاية الخرطوم عمليات سطو أعقبتها حرائق كبرى التهمت كل المحلات التجارية.
وأوضح الطيب عثمان يوسف أن هنالك مجرمين كثر ارتدوا أزياء القوات النظامية مستغلين بذلك مناخ الحرب لممارسة السطو المسلح على المدنيين، ويشدد على أن هذا الأمر بالتأكيد لا يعفي قادة هذه القوات من المسؤولية المباشرة.
ويبدي الرائد شرطة معاش الطيب عثمان تخوفه من أن هذه المجموعات الإجرامية الهاربة من السجون بعدما تحصلت على أسلحة وأموال أن تتحول إلى منظمات إجرامية يصبح أمر مكافحتها في غاية الصعوبة مثل ما يحدث في دول أمريكا الجنوبية من انتشار واسع للعصابات الإجرامية.
ويشير إلى أن السجون كانت تحوي أعداداً كبيرة من المنتمين لتنظيم القاعدة (داعش) والجماعات الإسلامية المتطرفة من جنسيات مختلفة وهم يشكلون خطراً على السلم والأمن الدوليين.
ويتساءل عن أماكن تواجد هؤلاء الأفراد المنتمين لهذه الجماعات الإسلامية الذين كانوا في معتقلات وسجون جهاز الأمن والمخابرات.