تم نشر هذه المقالة في جريدة الخرطوم بالقاهرة في يوم الخميس 23 / 7 / 1998 العدد 1861 في حياة الشاعر، وقد تم بعض التعديل عليها بعد رحيله في مايو 2008 رحمه الله وطيب ثراه.
– 1 –
في حياتنا وفى رحلة العمر والسنوات محطات كثيرة, نتدلى من قطار الرحلة في البعض منها، وتبقى الأخريات محطات عوابر لا نتوقف ولا نتدلى فيها، لأننا حينما وصلناها فوجئنا بأنها محطات بلا سيمافورات تجبرنا على التوقف وتهديء من سرعة تواصل الرحلة في سكة الأسفار والرحيل إلى مدن هواجر وأمكنة أصبحت هي حياتنا التي نعيش مدى العمر فيها، وأولئك الأحباء الذين إلتقيناهم ذات مرة ومرات ظللنا نحملهم فى دواخلنا بالرغم من بعادهم وغيابهم عنا، أصبحوا هم محطاتنا التي نتدلى ونتوقف عندها كي نتفيأ بظلالهم وذكرياتهم الثرة، لأنهم وحدهم الذين أجبرونا على عدم نسيانهم أو التخلي عنهم مع مرور الأيام.!
ومن هؤلاء الأحباء يأتي شاعرنا الكبير محى الدين فارس بحضوره المتواصل في الذاكرة، ليوقد من جديد مشاعل ذكريات رحيبة جمعتني به في لقاءات عابرة فى أرض الكنانة بمصر.!
ومحى الدين فارس الذى أكتب عنه اليوم هذه الأحرف المتواضعة هو بلدياتى من أرقو السرارية فى شمال السودان، حيث ولد وعاش طفولته وصباه الباكر هناك فى قرية الحفيرة، وهى قرية تقع فى منخفض من الأرض على حوض أرقو، تحيط بها الكثبان الرملية من كل الجوانب، وتعلو هذه الكثبان البيوتات التى شكلت تلك القرية، وفى صحن المنخفض حيث الأرض الخصبة، كانت في سابق الأيام تروى بالسواقي حيث ساقية علي الشايقي وأولاد ماقة وعبدالحفيظ، وسميت القرية بالحفيرة لأن المياه الجوفية كانت قريبة جدا من السطح، وإلى يومنا هذا تقف شجيرات النخيل وأبيار السواقي شاهدة على ذلك الزمن الذي إنقضى وراح، هناك وما بين أشجار النخيل والدوم والطندب والقيزان الرملية ولد محى الدين في العام 1936 لأب تسكن أسرته فى كرمة هو فارس أحمد عبدالمولى وأم من قرية الحفيرة هى نفيسة فرج إسحق، عاش طفولته وصباه الباكر بالقرية ودرس بعضاً من علوم القرآن بخلوة الشيخ أحمد النور في السرارية وزامل والدي وعمي أحمد سعيد بها، وقد أعجب به شيخه وتنبأ له بمستقبل مشرق، لكنه وفي عمر السابعة أخذه والده مع أمه وهاجر بهما إلى مصر وأنتهى المطاف بالأسرة بمنطقة القباري في الأسكندرية، وفي مصر واصل تعليمه لكن الأجل كان أسرع بوالده وتوفي وهو لايزال صبياً، حيث تكفل به خاله عبدالحفيظ فرج إلى أن أكمل تعليمه بكلية دار العلوم في جامعة القاهرة، وهناك برزت موهبته الشعرية في بداية الخمسينيات وكان ينشر كتاباته في الجرايد والمجلات المصرية.!
-2-
بعد أكمال دراسته الجامعية في مصر عاد محى الدين إلى السودان شاعرا صقلت موهبته الدراسة والأهتمام بالأدب في مصر مثله مثل الفيتورى وتاج السر الحسن وجيلي عبدالرحمن وهم الذين شكلوا معا شعر التفعيلة ونشروه في عالم الشعر العربي فذاع صيتهم.!
عند عودته إلتحق كمفتش بمعهد بخت الرضا في الدويم وواصل نشر إبداعاته في المجلات والجرايد العربية، بعدها أتى إلى أمدرمان ليعمل أستاذا بثانوياتها، فكانت أمدرمان بالنسبة له هي محطته الأخيرة، هي حياته التي عاش إمتداد العمر فيها، وظلت بدواخله لتبقى زوجة وحبيبة وأهلاً ترك أصلهم في قرية الحفيرة وفرعهم في أرض الكنانة، تمرد على نفسه وأهله فأبدع وأخرج لنا أحلى أناشيده وأروع أدبياته،،وكان الشاعر مصطفى سند صديقه الحميم فتزوج محي الدين من أخته وبقي برفقتهم في أمدرمان.!
ومن أمدرمان أبدع وأخرج للمكتبة السودانية والعربية روائع الأدب والشعر وله خمسة دواوين شعر هي الطين والأظافر صدر عام 1956، نقوش على وجه المفازة عام 1978، صهيل النهر والقنديل المكسور عام 1997، تسابيح عاشق عام 2000، وقصائد من الخمسينات، إضافة للعديد من المؤلفات الأخرى وهو من الأقلام التي شغلت النقاد زمناً طويلاً،، كما أنه رمز وطني هميم، فمنذ عودته من مصر أشعل مع أقرانه جذوة النضال الوطنى ضد المستعمر، وناضل بكتاباته وقصائده دعما لأهل فلسطين.!
كان لقائي الأول بمحي الدين من خلال جريدتي الأيام والصحافة مطلع الثمانينات حيث كنت أداوم على قراءة كتاباته الشعرية والأدبية المتميزة المنشورة على تلك الصحف، بعدها بسنوات قلائل أتيت إلى مصر للإلتحاق بجامعة القاهرة لدراسة الهندسة المدنية فيها، وفى صيف 1985 ذهبت إلى الأسكندرية يرافقني صديقي يحى حمزة، حينئذ أتيحت لنا الفرصة لزيارة أسرة شاعرنا الكبير في منطقة القباري، وعلى قدر النوايا الطيبات تأتي المفاجآت السارة، فأذا بنا نفاجأ بوجوده بين أهله حيث منزل والدته نفيسة فرج، وقد أتى إلى مصر فى ذلك العام مشاركا فى مهرجان الشعر بمعرض القاهرة الدولى للكتاب، وقد كان لقاءاً مفعماً بالحب والذكريات، فعبر الخيال الثر، إمتطى الفارس جواده وسافر بنا إلى أرض الذكريات الطيبة فى أرقو السرارية والحفيرة، ومع حكاوي نفيسة فرج وأحاجي الزمان القبيل، توقدت فينا مجامر التذكارات القديمة وكوامن الشوق الدفين إلى تلك الأمكنة المترعة بلهيب الإنتماء الوجداني والروح التى ظلت تحملها في الدواخل ذكريات ثرة، كلما ناغيناها وناغينا فيها ذلك الزمان المورق.
فى ذلك اللقاء الطيب ذكرت شاعرنا بمقال لطيف له كان قد نشره بجريدة الأيام في عام 1983 يحكي فيه بعضاً من ذكرياته ونذق الطفولة فيها، وشقاوة الصبا الباكر في قرية الحفيرة، الشيء الذى جعله يبدو أكثر سروراً وإعجاباً بأحد قرائه وهو يذكره بتفاصيل كتاباته.!
– 3 –
ومقالته اللطيفة تحكي:”أنه عندما كان طفلاً في قرية الحفيرة، كان يلعب كرة الشراب ذات يوم مع أولاد خاله عبدالحفيظ فرج، سعيد وعمر عبدالحفيظ وأولاد خالته ماقة فرج، محمد وعبدالمجيد ماقة، وأثناء لعبهم الكرة تحت أشجار النخيل، فإذا به يشوت الكرة عاليا لتستقر أعلى النخلة بين الجريد، فكان لزاماً عليه أن يتسلق النخلة لكي يأتي بالكرة من قلب النخلة، وهنا عض عراقيه بأسنانه وصعد، وما أن وصل إلى أعلى النخلة حتى وجد مفاجأة غير سارة كانت بأنتظاره، لم يكن يتوقع حدوثها أبدا، فقد فزع وصرخ بشدة عندما رأى دبيباً ضخماً”ثعبان”ملفوفاً بين الجريد وقريباً من موقع الكرة، فأرهبه ذلك المنظر وسرعان ما أخذ يتسلق النخلة نزولاً، وما أن وصل إلى منتصفها حتى قفز إلى الأرض لينجو بنفسه الشيء الذى أثار سخرية رفاقه عليه!
عندها فكر الصبية الصغار في حيلة تخلصهم من الدبيب حتى يأخذوا الكرة ويواصلوا لعبهم، وتتولد الفكرة عند محمد ماقة”أشجعهم كما يصفه الشاعر”، فإذا به يسرع إلى والدته ماقة فرج ويأتي منها بصرة شطة مسحونة، ويصعد بها إلى أعلى النخلة ويكشحها بأتجاه الدبيب الذى غادر النخلة نازلاً إلى الأرض، ليلقى باقي الصبية فى إنتظاره بالحجارة والعكاكيز، يقتلونه ويتخلصون من شره، بعدها يأتي محمد ماقة بالكرة ويواصلون لعبهم من جديد”.!
هذه هى أحداث القصة التي نشرها شاعرنا الكبير بجريدة الأيام عام 1983؟ يحكي فيها بعضا من ذكريات طفولته بقرية الحفيرة التي ولد فيها، وقد كتب عدة مقالات عن أيام طفولته فى البلد، حيث كتب عن شيخه أحمد النور وأيام الخلوة وكتب أيضا عن الشيخ خيري الماذون.!
أيضاً تكرر لقائي به في ينائر 1988، حينئذ كنت المسؤول الثقافي برابطة دنقلا للطلاب السودانيين بمصر ورئيسا للجمعية الهندسية بجامعة القاهرة، وقد أتى شاعرنا في ذلك العام للمشاركة في مهرجان الشعر بمعرض القاهرة الدولي للكتاب، وكنا بصدد إقامة ليلة ثقافية، حيث كانت فرصة وجوده سعيدة بالنسبة لنا، وتحملت عبء الدعوة والترتيب لليلة الثقافية، ذهبنا لمعرض الكتاب للقائه والإستمتاع بالإلقاء الشعري في سفره وشعراء آخرين هم فرسان الكلمة وسلاطين الحروف:”شاعرنا سيف الدين الدسوقي، السفير السعودي الشاعر حسن عبدالله القرشى، الشاعرة القطرية زكية مال الله وشاعرة جزائرية وآخر موريتاني خاناني الذاكرة لأستحضر إسميهما”.!
كان محي الدين سعيداً باللقاء الذي جمعنا مرة أخرى وكنت الأسعد لموافقته مشاركتنا ليلتنا، بل زاد وقدمني للشاعر الدسوقي الذي كان يرافقه بالفندق بأني بلدياته ورفع عني كلفة دعوته للمشاركة أيضاً، وكذلك دعى وقدمني للشاعر حسن عبالله القرشى وزكية مال الله الذين بدورهما قبلا دعوة المشاركة.!
أقمنا الليلة الثقافية بأحد الأمسيات العامرة في ينائر من عام 1988 بدار السودان بالقاهرة وسط البلد، حيث أتى كل هؤلاء الفطاحلة، وقد أتت مشاركة حسن عبدالله القرشي وزكية مال الله من واقع الحب الذي يكنونه لكل ماهو سوداني،، حيث عمل السفير القرشي لسنوات ممثلاً للمملكة في عهد الرئيس نميري وكان يكتب في الجرايد السودانية طيلة فترة عمله سفيرا بالسودان، وكم قرأنا له من أشعار عديدة في تلك الفترة، كما أفصحت زكية مال الله بأنها زارت السودان عدة مرات وعبرت عن حبها لذلك البلد الجميل بأهله.!
كانت تلك الليلة من أروع الليالي الثقافية التي حضرتها في حياتي على الأطلاق، وقد تبارى فيها أولئك الشعراء العظام في إلقاء قصائدهم الشعرية المفعمة بالحب والشوق والحنين، ولازالت القوافي التى سكبت في تلك الليلة تدغدغ أسماعي ويرجع صداها حتى الآن رغم مرور السنوات،، وكم كان كل منهم جميلاً في ذاته وإلقائه، ولا أنسى صدى الحاضرين حينما ألحوا على الشاعر الدسوقي إلقاء قصيدة”الرسالة”التى تغنى بها الجابري حيث يقول في مطلعها مطلعها:” مافي حتى رسالة واحدة بيها أتصبر شوية”.؟ ومن ثم إعادتها مرات ومرات وسط تصفيق الحضور بحرارة، ولم لا.؟ حيث كتبها الشاعر في غربته وتغنى بها ورددها مثله كل غريب عن داره وأحبابه وهو يهيم عشقاً وحباُ وتمني.!
-4-
بعد ذلك ألتقيت ومحي الدين في مرات قلائل عبر وجوده في القاهرة ومشاركته في مهرجان الشعر بمعرض الكتاب والذي كان يداوم على حضوره دايما، فمصر كانت بالنسبة له هي حبه وبلده الثانى الذي ترعرع فيها ونهل من علمها وفيها تفتقت موهبته الشعرية، كان رجلاً بسيطا وإبن بلد، سمحا بسحنته وبشرته ولكنة لسانه، لم تغير الشهرة فيه من سماحة أهل البلد وطيبتهم العفوية التي تكسي محياه، وهو الذي صال وجال كل مهرجانات الشعر حيث كان مشاركاً فعالاً أينما كانت مواسم الشعر ومهرجاناته تقام في السودان ومربد بغداد ومعرض القاهرة الدولي للكتاب ومهرجان أصيلة وغيرها من المهرجانات الثقافية، وقد فاز بجائزة البابطين دورة إبن زيدون في العام 2004، وهي جائزة تمنح كل عامين لشاعر كبير من فطاحلة الشعر العربي، وأحسب إنها أتت إليه خجلى متأخرة كثيرا، كما كرمته الدولة لإسهاماته العديدة عبر السنين،، وإن أتى التكريم في حياته لكن طاله الإهمال من الدولة والمشرفين على الأدب والثقافة وزملائه وكل المبدعين في بلادي.!
فقد ظل شاعرنا مريضاً وحبيساً في بيته بأمدرمان أكثر من عشر سنوات، لا يستطيع الحراك بعد أن ترجل عن جواده وكبا، فقد أقعده مرض السكر اللعين وكان سبباً في بتر ساقيه الأثنتين،، قضى أخريات سنينه بداره وحيداً يصارع آلامه وأناته، لا يقوى على شىء بعد أن تضاءلت مسافة تجواله بمقدار المساحة التى يدور حولها كرسيه الذي أصبح هو وسيلته الوحيدة للحراك داخل مسكنه، وهو ذلك البلبل الذي أطربنا وشدا بأعزب الكلمات سنوات طوال، فدوماً ما يقاسي المبدعون في بلادي وهم الذين قدموا الكثير وأفنوا زهرة حياتهم لإسعاد هذا الشعب العظيم.!
قضى شاعرنا الفارس محي الدين أخريات أيامه في أمدرمان بجوار أولاده وعائلته يؤانس وحدته بهم حتى تمكن منه المرض فأنهك قواه، وفي مساء حزين من يوم الخميس 15/5/ 2008 نعى الناعي إلينا نبأ رحيله،، فكان موتا ورحيلا أبكى كل من عشق هذا الفارس على صهوة جوادة وهو يسابق الفرسان في كل سباقات مهرجان الشعر أينما أقيم.!
بكاه الشعب والوطن الذي أحبه وتغنى له، رحل محى الدين بهدوء تاركاً خلفه إرثاً أدبياً ليبقيه في ذاكرة التاريخ وأجيال ستأتى لتقرأ وتعرف عن فارس سوداني كان إسمه محى الدين.!
#أبوناجي