يعد الاستاذ والكاتب العالمي الجهير السيرة الطيب صالح صاحب موسم الهجرة إلى الشمال مع الشاعر محمد المكي ابراهيم والموسيقار محمد وردي والفنان الأديب عبد الكريم الكابلي والشاعر مصطفى سند والشاعر والصحفي فضل الله محمد والعملاق الشاعر محمد الفيتوري ابن المساليت الفصيح، أكثر المبدعين السودانيين مقدرة على التفريق ما بين السلطة والدولة.
ففي زيارة استاذ الطيب صالح في أبريل ٢٠٠٥ بالخرطوم التي كان يقف وراءها أصغر اصدقائه الدكتور السفير والشاعر خالد فتح الرحمن، وقد كان للرجل جلسات اسبوعية تمتد لساعات بمنزل د. خالد بلندن، مما يغرينا بأن نحرضه باصدار كتابه الموعود في حضرة الطيب صالح كانت لنا أيام.
وفي ثنايا هذه الزيارة الميمونة والتاريخية زار الرجل الاستاذ علي عثمان محمد طه القيادي والاسلامي السوداني الشهير، والذي لا يعرف الكثير من الناس عن الوجه الاخر لشيخ علي وعن حذقه ومعرفته الموسوعية الناقدة للأدب السوداني والعربي والغربي وغوصه في الفنون والتاريخ والغناء والمديح السوداني بالرغم من أن الرجل كان غارقا في السياسة منذ عهد الشباب الاول، فقد كان رئيسا لاتحاد الخرطوم الثانوية في اكتوبر ورئيسا لاتحاد جامعة الخرطوم في مايو، وكان من أكثر السياسيين تقلبا في المناصب السياسية معارضا ومستورزا ومفاوضا وقياديا. ومما يحفظ للرجل انه قد رفض في إباء وشمم بعد أن دالت دولة الانقاذ التي بقيت تجربتها الثرة باجتهاداتها ومواقفها الصائبة والمخطئة معالماً في طريق السودانيين والعالم العربي والاسلامي والانسانية جمعاء، رفض الرجل أن يغادر بلاده بعد الفوضى التي عمت أركانها، وقال لأهل العرض السخي: أن الشعب السوداني الذي توجني شرف قيادته منذ الثانويات حتى أعلى المراتب في الحكومات المختلفة، لن اغادر جموعه في هذه الظروف العصيبة، وسأبقى مناضلا في صفوفه مساهمة أو محاكمة أو شهادة، فابحثوا عن شخص اخر لتقدموا له هذا العرض الشفوق. وقد أقام الاستاذ علي حفل شاي صغير وأنيق للأديب الطيب صالح وتجاذبا أطراف الحديث حول ذكريات الشمال والاذاعة السودانية وBBC وأيام وليالي لندن.
وقد فوجئ الطيب بالمقدرة النقدية الفائقة للرجل وهو يستعرض معه كتابات دومة ود حامد وعرس الزين وموسم الهجرة إلى الشمال وحتى آخر مؤلفاته (المنسي) ومقالاته في الورقة الأخيرة في مجلة (المجلة). فقال الطيب صالح متعجباً ومتسائلاً : وكيف وجدت وقتاً للقراءة وانت مستغرق في فسيفساء السياسة السودانية ويومياتها التي لا تنقضي؟
فرد عليه الاستاذ علي عثمان بابتسامته المعهودة أن القراءة يا استاذ الطيب هي آخر المتع التي تبقت لنا والأيام تجري سراعا صوب الرحيل، وعندما حانت صلاة المغرب صلى الاستاذ علي بأيات من سورة المائدة وبعد انقضاء الصلاة وانتهاء الدعاء والباقيات الصالحات، قال له الاستاذ الطيب صالح بصوته الرخيم العميق الممزوج بالفكاهة المتسائلة ما دمت قد صليت بالمائدة فلماذا توقفت يا استاذ علي عند ( ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ )
وكان الأولى أن تكمل الآية التي نزلت في حقي وحق آخرين فقال استاذ علي متعجبا وهل نزلت في حقك وآخرين آية يا استاذ الطيب؟
فقال الرجل ضاحكا ألا تعلم يا استاذ علي أن نصارى بريطانيا قد منحوني في سخاءٍ الراتب والطعام والزوجة وقرأ الآية (ٱلۡيَوۡمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَٰتُۖ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ حِلّٞ لَّكُمۡ وَطَعَامُكُمۡ حِلّٞ لَّهُمۡۖ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ وَٱلۡمُحۡصَنَٰتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ إِذَآ ءَاتَيۡتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحۡصِنِينَ غَيۡرَ مُسَٰفِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِيٓ أَخۡدَانٖۗ وَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلۡإِيمَٰنِ فَقَدۡ حَبِطَ عَمَلُهُۥ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ)
وهنا دخل الجميع في موجة من الضحك المتواصل والتعليقات الذكية قبل أن يتدفق الحديث في أشواك السياسة وأشواق الخلق السوداني المتسامح.
ولعلنا نلقى سانحة أخرى في الإفاضة في هذه الجلسة التي توسدت إحدى نجيمات الخرطوم البعيدة، رد الله غربتها ورحم الله الطيب وأعاد الله الاستاذ علي عثمان لمجلسه ومسجده واعترافاته الكبار في مذكراته التي ستملأ الدنيا وتشغل الناس.