*في زمن الخواجات.. (لحكم الثنائي).. وقع خلاف بين حكيم العبدلاب ، وناظر خط الريف الشمالي للخرطوم ، العمدة (سرور رملي)..*
*وُضِعت القضية بين يدي أحد القضاة الإنجليز..*
*في المحكمة كان الحضور كثيفاً.. والعيون تشرئب من وراء شبابيك القاعة على رجلين من براح الحقول ، ينتظران القول الفصل في خصامهما ، من الخواجة (أبو برنيطة)..*
*صرخ الحاجب صرخته المعروفة:*
*محكمة..!!!*
*وقبل أن يبدأ القاضي إجراءاته الروتينية.. رفع حكيم العبدلاب يده طالباً الإذن بالكلام.. وقال:*
*يا مولانا ، أولاً وقبل كل شيء ، عندي نقطة نِظام..*
*همهم الناس على الحكيم وثوبه الملفح وعمامته المُقنطَرة كسحابة فوق الكثبان..*
*بعضهم ظنَّ أن شيخ العرب (اتضعضع) وبعضهم قال:*
*شوف زويلك ، كمان داير يتكلم تحت حنك القاضي؟..*
*الليلة الله قال بى قولو..*
*ثم شرع حكيم العبدلاب في تنقيط النظام ، فقال:*
*يا مولانا ، الراجل ده سيد البلد ، وزعيم الخط ، وتقديراً لمكانتو ، أنا أتنازل عن حقي.. هو يقعد في الكرسي ، وأقيف أنا فوق كرعيني أمام المحكمة..*
*أطرق الخواجة ، في تلك اللحظة السودانية الفارقة..*
*كأنه يسعى لاستيعاب تفاصيل السماحة بين خصمين ، يراهما بعض رعايا في إمبراطوريته التي لا تغيب عنها الشمس..*
*بصوت جهور ، وبعينٍ تسبر غور النفس الشاحِمة ، نفض الخصم جلبابه.. وقال:*
*يا مولانا ، أنا العمدة سرور ، أتنازل أمام المحكمة للزول دا ، عن الساقية زاتا..*
*ما داير معاهو قضية ، وما داير أي حاجة..*
.
*كان الخواجة – الحاكِم – قد تحوّل في تلك اللحظة السودانية الفارِقة إلى متفرِّجٍ ينقِّر بأصابعه فوق دفاتر آل سكسون ، بينما مضى حكيم العبدلاب في مجادعته للناظر:*
*أسمح لي بكلمة يا مولانا..*
*أنا ما ممكن أطلع من المحكمة.. منتصراً على زعيم البلد ، وما بخلي الناس تقول العبدلابي مشى كلمتو فوق كبيرو.. حرّم أنا ما بسوّيها..*
*وقف القاضي حائراً بين خصميه ، بينما تربّع العمدة سرور بهيبته كلها فوق عرش المحكمة.. وقال:*
*خلاص يا أخوي ، أنا أديتك ساقية البحر ، بدل الساقية دي..*
*.. أها..*
*العفو والعافية..*
*ولكن.. لكن حكيم العبدلاب برم أشنابه التي تُخفي سبارس البحاري ، وقال موجهاً حديثه للقاضي:*
*قسماً بالله يا مولانا ، ما دايِرا.. ساقية البحر دي ، طول السنة سواقيها مدوِّرة قُصاد ديوان ود رملي ، كيف أقبل أشيلا أنا براي؟*
*.. حرّم دي أنا مَا بسوّيها..*
*عندما وصلت المجادعة إلى هذا المستوى ، ضرب الخواجة كفيه تعجُباً ، وأمر الحاجِب برفع الجلسة وهو يقول:*
*بالله شوف.. السودانيين دايرين يعلمونا الأخلاق؟!*
*نعم سيدي ، إن مطلوب الأخلاق فوق مطلوب القانون..*
*فتأمّل يا سيدي كيف كُنّا نحنُ ، وأين أصبحنا الآن؟*
*جهوية..*
*وقبلية..*
*وتباغض..*
*وحسد..*
*وغل.. !!*
*ولا حول قوة إلا بالله العلي العظيم*