بسم الله الرحمن الرحيم
مشاهد
محمد الطيب عابدين
حُكم المؤسسة
( الأحزاب السياسية السودانية …نموذجاً )
********************
تقديم
-؛-؛-؛-؛-؛-؛-؛-
لأماد بعيدة ظلت البشرية تتأرجح بين حكم فرد (مطلق) ، و حكم مؤسسة ( شورية او ديموقراطية ) ، فكان حكم الفرد المطلق يتمثل في اسوأ حالاته في الحاكم الإله { فرعون} ، و الإمبراطور المقدس ، والزعيم مدى الحياة ، و الرئيس الدكتاتور ، والملك الذي لا يسئل عما يفعل .
أما المؤسسة الحاكمة فقد تمثلت في أبهى صورها في دولة المدينة التي أسسها سيدنا محمد صلى الله علي وسلم ، فبرغم النبوة الكاملة التي اختصها به الله ، وشخصيته القيادية الملهمة ، حيث لا ينطق عن هوى ، و طاعة اصحابه التامة له ، الا انه كان يشاورهم في كل امر ، ويستمع إلى صغيرهم و كبيرهم ، فخلق بذلك مؤسسة شورية حكمت الدنيا من مشرقها الى مغربها، و دانت لها قصور الروم و كسرى .
المؤسسة الديمقراطية في العصر الحديث فقد تمثلت في الجمهورية الفرنسية ، والملكية البرلمانية البريطانية ، ثم انداحت في معظم الدول الاوربية الاخري ، والولايات المتحدة الامريكية ، وبعض دول العالم الاخري.
وحتى تصبح الدولة ، دولة ديمقراطية تحكم بمؤسسات حقيقة فاعلة ، وليس حكماً انفرادياً ، يجب ان تتوافر فيها شروط لازمة ، اولها وجود تعددية حزبية تتمتع بكافة الحقوق والحريات المنصوص عليها في الاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة ١٩٤٨م ، والعهود الدولية التابعة له .
والشرط الثاني ان تمارس هذه الاحزاب الديمقراطية داخل اجهزتها لتصبح احزاباً ديمقراطية حقيقية ، كما يتوجب ان تدار شئون الحزب بشكل مؤسسي وليس انفرادي ، فالقرارت تكون للمؤسسة ، والحكم يكون للمؤسسة والمحاسبة تكون لها ايضاً .
تعريف المؤسسة
_____________
المؤسسة ( Establishment ) كلمة مشتقة من الغعل ( اسس بمعنى أوجد او أنشأ) وهو لفظ يطلق على كل نظام سياسي أو إجتماعي او اقتصادي قائم في أي مكان ، ويقابله بالعربية لفظ ( المنظومة الحاكمة ) سواء كانت في الدولة او الحزب السياسي .
وتتشكل المؤسسة ( غالباً ) تلبية لفكرة او حاجة اجتماعية لتخلق لدى الفرد شعوراً بالاختلاف والتميز تجاه الاخرين ، و تضطرهم للدفاع عنها لانها تصبح تعبيراً عن وجودهم و دورهم الاجتماعي فهي تستمد قوتها من الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها ، وايضا من مصالح الجماعة المرتبطة بها ، فالمؤسسة تعبير عن عدة إرادات ، بينما الفردية تعبير عن إرادة واحدة ، لذلك كانت المؤسسة نقيض للإنفرادية .
و مع ظهور الاحزاب السياسية السودانية في القرن الماضي ، بدأٰت تتشكل ملامح قيادة هذه الاحزاب ، حيث تراوحت بين قيادة ابوية ، وقيادة قابضة مسيطرة على جميع اجهزة الحزب ، ومؤسسة حاكمة تعبر عن ارادة كل الحزب .
وبنظرة فاحصة لهياكل الاحزاب السياسية السودانية ، نجد ان القيادة الابوية كانت الاوفر حظاً في اغلب الاحزاب ، تليها القيادة المسيطرة القابضة على مفاصل الحزب ، واخيراً المؤسسة الحاكمة الديمقراطية .
مقومات حاكمية المؤسسة الحزبية.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
لحكم المؤسسة الحزبية مقومات أساسية لا يقوم الا بها ، وهي :–
(١) الحوكمة الحزبية
_____________
الحوكمة هي مجموعة القوانين واللوائح والنظم والقرارات التي تهدف الى تحقيق الجودة والتميز في الاداء عن طريق اختيار الاساليب المناسبة والفعالة لتحقيق خطط و اهداف المؤسسة ، وبذلك فان الحوكمة تعني تطبيق النظام الذي يؤدي الى التحكم في العلاقات بين اطراف المؤسسة والتي تؤدي بدورها وعلى المدى البعيد الى تقوية المؤسسة وتحديد المسئول والمسئولية .
ومن خلال التعريف السابق نجد ان اولى مراحل تكوين المؤسسة الحاكمة في الاحزاب السياسية هي وجود منظومة من التشريعات العليا { دستور ، نظام اساسي } ولوائح داخلية محكمة من ناحية الفكرة والصياغة ، تقرر وتجاز بصورة ديمقراطية من المؤتمر العام للحزب ، تقوى فيها سلطات واختصاصات المؤسسة على حساب سلطات واختصاصات القادة ( الافراد)، تُفصل فيها هذه الاختصاصات بشكل واضح وجلي ، و يُنص فيها على عدم ازدواجية عضوية الاجهزة التشريعية والتنفيذية الحزبية مع تقوية سلطات الاجهزة الرقابية ، و تصدر وفقاً لهذه التشريعات قرارت مدروسة تشاورية و ديمقراطية ، تقوم على ضبط الاداء الحزبي وفقاً لمبادئ و قواعد المتابعة والرقابة والتقييم والتقويم والمحاسبة والعقاب والثواب ، الامر الذي يؤدي الى تقوية المؤسسية الحزبية ، وتحديد المسئوليات و المسئول عن كل عمل في الحزب ابتداءً من عضو الحزب في الحي ، الى رئيس الحزب وقياداته العليا ، وتكون هذه القرارات محل تقدير واحترام والتزام من الكافة في الحزب .
(٢) ديمقراطية التنظيم
———————
الديمقراطية كلمة يونانية الاصل مكونة من كلمتين ( Demos ) وتعني الشعب { الجماعة } ، و ( Kratia ) وتعني الحكم ، و في الاصطلاح تعني حكم الشعب نفسه بنفسه ، اي حكم المجموعة ( المؤسسة ) ، وليس حكم (الفرد ) ، واذا اسقطنا هذا التعريف ، بكثير من التلطف ، علي الاحزاب السياسية السودانية نجد انها ، في معظمها وليس كلها ، تفتقر الى ممارسة الديمقراطية الحقيقية داخل اجهزتها الحزبية ، فرئيس الحزب لا ينتخب بصورة ديمقراطية حقيقية شفافة ، بل يتم الاتفاق عليه خارج قاعة الاجتماع واعداد سيناريو الترشيح والتثنية والتصويت ، هذا اذا تم تصويت اصلاً أو قام مؤتمر عام ، كما ان أجهزة الحزب يتم إعدادها مسبقا بحيث تكون اغلبية عضويتها من منسوبي و ( حوارِيُّ ) رئيس وأمين عام وقادة الحزب ، في تغييبٍ تام لإرادة المؤسسة الحزبية .
كما ان كثير من الاحزاب السياسية السودانية ينعدم فيها التداول ( السلمي ) للسلطة في قمة هرمها القيادي ، حيث نجد ان الرئيس و الزعيم و الامام و الامين العام و السكرتير العام ، يظل ثابتاً ( مكنكش ) في موقعه الى ان يلقى ربه ، ليصبح الرئيس (المرحوم )، بدلاً عن الرئيس( السابق ) ، هذا السلوك الدكتاتوري البغيض أفقد الاحزاب كثيراً من كوادرها المؤهلة ، و خلق حالة من التمرد و العصيان الحزبي ، تسببت في انشطار الاحزاب واضعافها نسبةً لإنسداد الافق أمام القيادات الوسيطة والشابة في الترقي والوصول الى كابينة قيادة أحزابها وتجديد الدماء والافكار المواكبة لروح العصر الحديث.
إن الاحزاب السياسية التي لا تستطيع إدارة الديمقراطية داخل اجهزتها الحزبية ، لا تستطيع ان تدير الديمقراطية داخل اوطانها ، ولا يحق لها ان تطالب بها ، لان فاقد الشئ لا يعطيه ، كما ان الاحزاب السياسية التي لا تلتزم قياداتها العليا ( الابدية ) بمواقيت زمنية محددة للتداول السلمي للسلطة داخل أجهزتها القيادية العليا ، لا تستطيع ان تناهض الدكتاتوريات الابدية الحاكمة لبلادها . كل ذلك نعزيه أولاً واخيراً لإنعدام حاكمية المؤسسة الحزبية في كثير من الاحزاب السياسية السودانية ، وطغيان سلطة ( الفرد ) علي سلطة( الجماعة) .
الانضباط الحزبي
____________
إذا قامت المؤسسة الحزبية وفقاً لقواعد الحوكمة الحزبية ، واصبح الحزب تنظيماً ديمقراطياً في تكوينه و قراراته ملتزماً بحرية الفرد المنضبطة بتشريعاته العليا ولوائحه ، يدير امواله بشفافية تامة وفقاً للقواعد المالية والمحاسبة والمراجعية يكون قد طبق مقومات حكم المؤسسة وتحول الى تنظيم مؤسسي ملزم لعضويتة يالانضباط الحزبي الصارم .
إن الانضباط الحزبي هو السياج الاخلاقي والقانوني الذي يحمي اجهزة الحزب السياسي من التفلت والعصيان الحزبي والخروج على المؤسسية ، و يمكن بالتالي من تطبيق خطط و برامج وأهداف التنظيم بسلاسة ودقة براقة تجزب الجماهير للإلتفاف حول الحزب المؤسسي .
والانضباط الحزبي يقوم علي قواعد و معايير تصدرها المؤسسة الحزبية الحاكمة ، وتقوم على تطبيقها اجهزة ضابطة للاداء و النشاط الحزبي في كافة مستوياته ، وفقاً لمبادئ المحاسبة والمناصحة والعقاب ، كل هذا في إطار حكم المؤسسة .
محمد الطيب عابدين
المحامي
بري ايقونة الخرطوم