*سِتر الليل الحالك* أميمة عبدالله*

يتعاقب علينا الضوء والظلام، النهار والليل، الشمس والقمر، هي الدنيا مذ قامت والأيام تمضي تلو الأيام والحال يستمر، والتاريخ يقلب صفحاته والزمان يدون حكاياته و ما يبقى للعبرة هو الأسود منها و الحقب المظلمة .
الصباح مع خيوطه البيضاء الأولى يكشف غطاء الليل الثقيل، يزيح الستار، وستار الليل هنا مخيف ملئ بالدموع والأوجاع والأحزان، وما أثقل دموع العجز والقهر والضعف على النفس، ثقيلةُ تلك الليالي التي مضت لمن عاش الرعب وقابل الجنجويد، و كان جزءا من الحدث وحمل وصم اللقاء في جسده، ستر الليل الحالك يجمعهم ويوّحد قصصهم على إختلافها، الألم الذي يعيشه من قابلهم ليس من عينة الألم الذي يزول، بل هو الألم الباقي لأزمانٍ طويلة، الألم الذي لا إحساس فرح بعده، الألم الذي يجعل الحركة بطئية و الإبتسامة باهتة منقوصة، و كيس الدموع على الدوام معبأ.
هنالك نوع من القهر يغير الراسخ من السلوك والمعتقدات، ألمٌ يشرخ السلم الداخلي والقناعة للأبد، قهرٌ يغير وجه الحياة ويجعل العيون ذائغة غير مستقرة، يُنِزل على القلب مزيجا من الأسفلت الحاجب ويجعل الإنسان يتقبل كل شيء بعده.
لكم هذه الحياة قاسية!
موجعة على العاديين منا!
العاديين الذين لا يملكون إلا شئون يومهم ومقدار رزقهم، وكانوا قبل حرب الجنجويد يملكون ستر بيوتهم قانعين بفقرهم في دولة لا تهتم إلا لمن هم حولها وفي دائرتها ومحيطها، إنه دأب سابق الحكومات ودأب الآن.
هنالك عينة من الدموع موغلة تكون في الملوحة والقهر تُذرف مرةً واحدةً في العمر، إنها دموع الشيوخ من الرجال، ودموع إنكسار النفس التي لا جبر فيها، وهنالك مناجأة في الليل لن يستطيع إحتمال سماعها إلا المولى عز وجل، مناجأةُ أثقل من جبل أحد، مناجاة صامتة، ترسلها العيون الدامعة إلى السماء، لتقع عند العرش العظيم، والله أهون عنده هدم الكعبة على تلك الإنكسارة وقتل النفس قهراً، لقد ركضت مئات القلوب العاجزة نحو السماء لأن الأرض أخف من أن تحتملها، مات الآلاف بأيدي الجنجنويد ودفنوا دون ان يعرفهم أحد، ولا حصر للقبور و لاعدد معلوم لحجم الإنتهاك الأثيم، ولا أحد يعرف مصير المئات من الناس الذين جرفهم مجرى شيطان الجنجويد، ومن دخل أسرهم لن يسلم ولن ينجو وسيكون التعافي عليه عصياً.
ومن غير الله يعرف قدر أنينها تلك التي حملت في أحشائها غرسهم الخبيث النتن، ومن يقدر على تقاسم وجعها وهي تخرجة كالورم السرطاني من رحمها، الكثيرات لم يحتملن رؤية نتاج ذلك الغرس الخبيث، تخلصن منه بمجرد خروجه، لكنهن وعلى آية حال لن ينسين، وحتى القبر لن يستطعن ترميم ومعالجة قلوبهن وغسل أرحامهن من الدرن.
من يقدر على تقاسم ثقل الجبال ذلك؟ ومن يملك قوة للمؤاساة والتآزر؟ من يقدر على حِمل الليل وإسترداد الذاكرة للأحداث؟ وهل يستطيع من قابل الجنجويد أن ينسى، وهل يستطيع من وقع في أسرهم وعاشر بربريتهم وشم كير رائحتهم أن ينسى؟
نصف جغرافيا البلاد الآن، في هذا الليل يغلفها السواد، لا نور ولا دليل ولا أمل، الذين عادوا إلى بيوتهم بعد النزوح يحاولون توفيق أوضاعهم، وحدهم يسندون بعضهم بعضا، يسترون عوزهم، ويدارون على فقرهم بحياة الجماعة، ومئات الجوعى ينامون وقد إعتادوا على المعدة الفارغة، صاموا فبل حلول أوان الفرض، وطعام التكايا لا يُشبع، والله لا يرضى في عباده الظلم، والظلم في هذه البلاد قصته طويلة ومداخله متنوعة ودروبه متعددة وأشكالة مختلفة، إلا أنه الآن يُطبق على البلاد حد الخنق، إن كان ولاة الأمر يعرفون!
هل سنخرج من هذه الحرب قريبا؟
وهل يمكننا التعافي؟
وهل سنشهد فترة عودة الحياة إلى المناطق التي إجتاحها الجنجويد؟
ليس أمام المجتمع الآن إلا مساعدة نفسه وتقديم الخدمات فيما بينه والرجوع إلى حياة الجماعة المشتركة لتآزر الأسر بعضها البعض، ليس على مستوى التكايا ولا تقديم الرعاية الصحية -قدر المستطاع- بل أيضا في التبادل الإنساني وتقديم العون العاطفي، نحن بحاجة حتى لتحية السلام القوية لنطمئن، إلى شد اليد في المصافحة لتنتقل إلينا حرارة دماء بعضنا.
إننا بحاجة الآن إلى تعزيز الوحدة الوطنية وبناء المجتمع من جديد والإحساس بسودانيتنا أكثر، وبمسؤوليتنا تجاه إسناد بعضنا، والإستعداد للبدء من جديد، من نقطة البداية تماماً.

مقالات ذات صلة