السودان اليوم على مفترق طرق مصيري، حيث تتجدد التحديات السياسية والأمنية التي تعيق بناء دولة مستقرة وقادرة على ضمان كرامة مواطنيها. إن تحقيق التحول المدني الديمقراطي ليس خياراً ثانوياً، بل هو ضرورة ملحة يجب أن تبدأ الآن، وبشكل لا يقبل التأجيل. وعلى المؤسسة العسكرية، كشريك وطني، أن تحترم هذه الإرادة الشعبية، وأن تلتزم بدورها الدستوري في حماية الحدود والأمن الداخلي، بعيداً عن التدخل في الشؤون السياسية أو إدارة الحكم، حتى وإن كانت لديها تحفظات على أداء بعض القوى المدنية. فالمستقبل الوحيد الذي يعيد للسودانيين وطنهم وكرامتهم هو مستقبل تُدار فيه البلاد بإرادة مدنية خالصة.
*أولاً: المؤسسة العسكرية ودورها في ظل الحكم المدني*
لعبت المؤسسة العسكرية أدواراً متباينة في تاريخ السودان الحديث، بين حماية السيادة الوطنية والانخراط في الصراعات السياسية. لكن الخروج من الأزمات الراهنة يتطلب منها اليوم التزاماً صارماً بمبدأ الفصل بين السلطات. فمهما كانت التحفظات على أداء القوى السياسية المدنية، فإن الشرعية الشعبية والديمقراطية تقتضي أن تترك إدارة الدولة لأصحاب الاختصاص من السياسيين، بينما تُركّز المؤسسة العسكرية على مهامها الأمنية والمهنية. إن بقاء العسكريين في الواجهة السياسية يُعمّق الأزمات، ويُضعف الثقة بين الشعب والدولة، ويعيق بناء مؤسسات مدنية فاعلة.
*ثانياً: خطاب “بَلْ بَسْ”.. علاجٌ سطحي لأعراضٍ مزمنة*
لا شك أن خطاب المؤسسة العسكرية الموجه للمتمردين، القائم على مبدأ “بَلْ بَسْ” ، يعكس ضرورة دحر التمرد و إنهاء العنف المسلح. لكن هذا الخطاب، رغم صحته في التعامل مع التمرد كظاهرة أمنية، لا يعالج جذور الأزمات المزمنة التي تغذي الصراعات، مثل التهميش السياسي والاقتصادي، وغياب العدالة الاجتماعية، وترهل مؤسسات الحكم. فالحلول الأمنية وحدها أشبه بـ”مسكنات” مؤقتة، بينما تحتاج البلاد إلى “جراحة” سياسية شاملة تعالج أسباب التمرد عبر حوار وطني شامل.
*ثالثاً: الحلول السودانية الخالصة.. الدبلوماسية المدنية مفتاح الاستقرار*
المخرج الحقيقي يكمن في فسح المجال للدبلوماسية السودانية المدنية لقيادة عملية السلام. فالقوى السياسية والمجتمعية المدنية أقدر على فهم تعقيدات النزاعات المحلية، وإشراك كل الأطراف، بما في ذلك المتمردين، في حوارات تهدف إلى تسوية سياسية عادلة. هذه الحلول “السودانية الخالصة” يجب أن تسبق أي دعم دولي، لضمان أن تكون مُلْبِيةً لاحتياجات الشعب وليس لأجندات خارجية. وبعد ذلك، يصبح الدعم الدولي عاملاً مساعداً لترسيخ السلام، وليس بديلاً عن الإرادة المحلية.
*خاتمة: التحول المدني.. استثمار في المستقبل*
إن تأخير التحول المدني يعني استمرار تداعي الدولة وفقدان السودانيين لوطنهم. على المؤسسة العسكرية أن تدرك أن مصلحة البلاد تقتضي الانحياز لإرادة الشعب، والثقة في أن القوى المدنية قادرة—رغم كل عيوبها—على قيادة مرحلة انتقالية تُعيد التوازن للدولة. إنها لحظة تاريخية لتتحول المؤسسة العسكرية من لاعب سياسي إلى حامٍ للديمقراطية، فتكون بذلك قد قدّمت أعظم خدمة لوطنٍ يستحق أن يعيش أبناؤه بكرامة وأمان.