يبدو أن جنوب السودان يقف اليوم على حافة هاوية جديدة من الصراع، مع تصاعد التوترات السياسية والعسكرية في ظل أزمة اقتصادية خانقة وتدخلات إقليمية تُعيد رسم خريطة الولاءات داخل البلاد. فوفقًا للمراقبين الإقليميين، إن اندلاع أعمال العنف الأخيرة، خاصة بعد استيلاء ميليشيات النوير المتحالفة مع نائب الرئيس ريك مشار على قاعدة عسكرية في بلدة ناصر، يُمثل تهديدًا مباشرًا لحكومة الوحدة الوطنية الهشة، التي تشكلت بموجب اتفاق السلام لعام 2018.
الدولة الفتية التي انفصلت عن السودان في 2011، تبدو اليوم على شفا حرب أهلية جديدة، في ظل تفاقم التوترات السياسية، والتراجع الاقتصادي الحاد، والتدخلات الإقليمية المتشابكة. والمشهد الحالي في البلاد لا يمكن فهمه دون النظر إلى مجموعة من العوامل المتداخلة: الصراع الإثني، الانقسامات السياسية، التأثيرات الإقليمية، والانهيار الاقتصادي الناتج عن الحرب في السودان.
▪️الأزمة الإثنية: نار تحت الرماد
لطالما كان التنافس بين قبيلتي الدينكا والنوير هو الوقود الأساسي للصراعات السياسية في جنوب السودان، حيث يتزعم الرئيس سلفا كير (دينكا) الدولة، بينما يقود نائبه السابق رياك مشار (نوير) جبهة المعارضة المسلحة. ومع اندلاع أعمال العنف الأخيرة، خاصة بعد استيلاء ميليشيات النوير المتحالفة مع مشار على قاعدة عسكرية في بلدة ناصر، عادت المخاوف من انهيار اتفاق السلام الهش لعام 2018.
والصراع لم يعد محصورًا بين الدينكا والنوير فقط، بل امتد ليشمل اشتباكات بين قبائل المورلي واللو نوير في ولاية جونقلي، والدينكا نقوك والتويك في أبيي، والبالاندا والأزاندي في غرب الاستوائية، مما يزيد من تعقيد المشهد الأمني. هذه الصراعات غالبًا ما تكون مدفوعة بالنزاع على الأراضي، وحقوق الرعي، وعمليات الخطف، وهي تغذيها الأطراف السياسية المتنافسة التي تستغل الانقسامات الإثنية لتعزيز نفوذها.
▪️التجاذبات السياسية: احتدام الصراع داخل حكومة الوحدة
حكومة الوحدة الوطنية التي تشكلت بموجب اتفاق 2018، تواجه انهيارًا وشيكًا، مع تصاعد الخلافات بين سلفا كير وخصومه السياسيين. اعتقال وزير النفط بوت كانغ شول، وهو أحد أبرز حلفاء مشار، أثار موجة من الغضب في أوساط النوير، مما زاد من احتمال اندلاع مواجهة مباشرة بين الفصائل المسلحة.
على المستوى الإقليمي، تشهد البلاد تحولات في تحالفاتها، حيث بدأ سلفا كير في الاقتراب من الجنرال حميدتي وقوات الدعم السريع السودانية، وهو ما دفع قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، إلى إعادة إحياء تحالفاته القديمة مع ميليشيات النوير المتحالفة مع مشار. هذا التغيير في الاصطفافات السياسية زاد من تعقيد الأوضاع، ويهدد بتحويل جنوب السودان إلى ساحة صراع بالوكالة بين الأطراف المتحاربة في السودان كذلك.
إضافيًا؛ يعتمد جنوب السودان بشكل شبه كامل على تصدير النفط كمصدر رئيسي للعائدات الحكومية، ويتم نقل نفطه عبر السودان إلى ميناء بورتسودان. ومع احتدام الحرب السودانية، أغلقت العديد من خطوط الأنابيب أو تعطلت بسبب المعارك، مما أدى إلى انهيار العائدات النفطية. هذا النقص الحاد في التمويل جعل الحكومة غير قادرة على دفع رواتب الموظفين، مما أدى إلى تصاعد الغضب الشعبي، وزيادة المخاوف من اضطرابات واسعة.
في المقابل، يدرك السودان أهمية استمرار تدفق النفط، لكنه يستخدمه كورقة ضغط على جوبا، مما يجعل جنوب السودان في موقف اقتصادي هش، ويمنعها من إيجاد بدائل سريعة مثل بناء أنابيب جديدة عبر كينيا أو إثيوبيا اللتين تم الحديث عنهما مؤخرًا.
وفي ظل هذا الوضع المعقد، هناك ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل جنوب السودان:
1. الانزلاق إلى حرب أهلية شاملة: إذا لم يتم التوصل إلى حل سياسي بين سلفا كير ورياك مشار، فقد يتفكك اتفاق 2018 نهائيًا، وتعود البلاد إلى صراع دموي جديد قد يكون أكثر وحشية من الحرب السابقة بين 2013 و2018.
2. تدخل إقليمي لاحتواء الأزمة: يمكن أن تلعب إيغاد أو الاتحاد الإفريقي دورًا في تهدئة الأوضاع، وربما يتم استئناف مبادرات مثل محادثات توميني في نيروبي، والتي تهدف إلى إشراك الجماعات غير الموقعة على اتفاق 2018.
3. تفاهم سياسي هش يبقي الوضع على حافة الانفجار: قد ينجح المجتمع الدولي في فرض هدنة مؤقتة، لكن طالما بقيت الانقسامات العرقية والاقتصادية قائمة، فإن أي اتفاق سلام سيكون مجرد تأجيل لحرب قادمة.
▪️انعكاسات الأزمة على دول الجوار:
هنالك قراءات غير واعية من بعض المحللين تنبع عن شماتة أو رغبة في الانتقام، مفادها أن على حكومة سلفاكير أن تدفع ثمن وقوفها مع ميليشيات حميدتي، ويستبشرون بما يحدث في جنوب السودان.
الحقيقة؛ أنّ ما يحدث في جنوب السودان – إن تحوّلت إلى حربٍ شاملة- لن يبقى محصورًا داخله. انهيار الحكومة هناك سيؤدي إلى موجة نزوح ضخمة باتجاه السودان وأوغندا، وغالباً إلى إثيوبيا وكينيا كذلك، والاحتمال قائم في غيرهما من الدول المجاورة، مما يزيد من تفاقم الأزمة الإنسانية في المنطقة. كما أن استغلال السودان لجماعات مسلحة داخل جنوب السودان قد يعيد إشعال نزاعات حدودية، خصوصًا في منطقة أبيي الغنية بالنفط، والتي لا يزال وضعها النهائي غير محسوم.
الحذر والترقّب ما ينبغي تبنّيه، أما ما يجب فعله؛ هو السعي لتدخلٍ إقليمي واحتواء الأزمة، وليست سياسة استغلال التناقضات داخل جنوب السودان. يجب أنْ نغار على استقراره، ليس أن نكون أطرافًا في زعزعته!
إدريس آيات- قسم العلوم السياسية- جامعة الكويت!