*مؤانسة رمضانية (23) معاوية جمال الدين: الأمدرماني الاصيل*

بسم الله الرحمن الرحيم
مؤانسة رمضانية (23)

معاوية جمال الدين: الأمدرماني الاصيل

حين يجلس أمامك، يرجع بكرسيه للوراء، ثم ترتسم ابتسامة ساخرة على شفتيه، عليك أن تضع قلمك وأوراقك، لم تكن اللابتوبات شائعة حينئذ، وأن تنصت جيدا…فهناك حكاية في الطريق، وما أكثر حكايات معاوية جمال الدين. هو من طينة الحكائين العظام، لا تخلو ذاكرته من أي حكاية تناسب الموضوع الذي تتحدثون فيه، وفي غالب الاحيان هي حكاية طريفة وممتعة..وغالبا أمدرمانية.
التقيته للمرة الاولى مع بدايات إصدار جريدة الخرطوم في الخرطوم، عام 1988. جاءنا من صحيفة “سودان تايمز” الإنجليزية التي كان يعمل بها مع بونا ملوال، قال إنه يشتاق للعمل في الصحف العربية لانها الاقرب لقلوب آلاف القراء.
تصادقنا بسرعة، كان سريعا في إنجاز مهامه، ينتهي من عمله، خبرا أو تقريرا أو حوارا، يتناول كوب الشاي أو القهوة، ويجالسني في المكتب نتبادل الحكايات. حين يكثر ضغط العمل أطلب منه تركي لكي أعمل، فيجيب ضاحكا “الشغل راقد كل يوم..لكن ونستي دي بجي يوم وما بتلقاها”. ظننت أن هذا اليوم لن يأتي، فقد تلاقينا في القاهرة ثم في الخرطوم لسنوات، لكنه رحل ذات صباح حزين في القاهرة، وكنت بعيدا في الخرطوم….ولم تعد تلك الحكايا والمؤانسات موجودة، لكن القديم منها لازال في الذاكرة.
معاوية الصحفي متمكن من أدواته، ويملك لغة رائقة وجميلة، مهما اجتهدت لن تجد له خطأ لغويا، ايا كان. كان مزاجيا في العمل، وهذه قد تجوز في الاعمال الإبداعية والفنية، لكنها لا تناسب العمل الصحفي، لذلك كان يضغط نفسه كثيرا ليتواءم مع متطلبات المهنة، ويشكو لي من ذلك كثيرا. رغم ذلك كان سريعا جدا في إنجاز مهامه، خاصة إذا كان هو من اختار موضوع التقرير أو الشخصية التي سيحاورها، وأجازه رئيس التحرير.
يستيقظ مبكرا، ويبدأ في مهمته، وحين يتأهب الصحفيون للخروج من المكاتب يكون هو قد عاد بصيده الوفير. يجلس بعيدا، مع عدد من أكواب الشاي والقهوة، بعد ساعة تقريبا تكون المادة جاهزة، ومكتوبة بخط مقروء وجميل. لم تكن تلك عادة منتشرة بين الصحفيين، خاصة مواد التقارير والتحقيقات والحوارات، غالبا ما تحتاج لأكثر من يوم ليتم إنجازها. كان يقول أنه يحس وكأنه يحمل عبئا على ظهره، لا يرتاح منه إلا بتسليم المادة بأسرع ما يمكن.
كانت شخصيته أقرب للعمل في الصحافة الثقافية والحوارية من الصحافة السياسية الضاغطة، لكن كانت لسوق العمل أولوياته. بعد سنوات طويلة من العمل جمع حواراته الفكرية والثقافية في كتاب أصدره مركز عبد الكريم ميرغني، ونظم له المركز جلسة تقديم محضورة، كنت أحد متحدثيها.
الجزء الظاهر من شخصية معاوية جمال الدين هي أمدرمانيته الصارخة، لم يكن يرى دنيا غيرها، تعيش داخله أكثر مما يعيش هو داخلها. لم تكن المسألة هي فقط هذه المحبة الجارفة لأمدرمان، لكنه كان من مراجعها الموثوقة، يحفظ أحياءها وحواريها و”زقاقاتها”، يعرف شخصياتها الشهيرة وعلاقات الأسر الكبير وعلاقات التناسب والزواج بشكل مدهش. كان أستاذنا السر قدور حين يكتب شيئا عن أمدرمان وشخوصها يلجأ إليه أحيانا ” تتذكر يا معاوية أخو الشاعر أو الفنان فلان الكان في سوق أمدرمان داك اسمه منو..؟”…فتأتي الإجابة حاضرة من معاوية. وإياك أن تخطئ في أغنية أو شاعر أو مغني من أمدرمان، فكل هذا موجود في الذاكرة الحديدية.
ولم يكن يتحرج في مواجهة أي مدع “للأمدرمانية” من غير سند حقيقي، وكثيرا ما كنت أناقشه في حدته في هذا المجال والحرج الذي يقع فيه المتحدث أمامنا، فيجيب ساخرا “هو يكضب ليه..؟”

وكان له ولع عجيب بتاريخ العسكرية السودانية، ودفعات الكلية الحربية المختلفة، وأوائلها وحاملي السيف فيها، يحفظهم فردا فردا، وإذا ما جاءت سيرة أي من أولئك الضباط العظام يرده إلى دفعته ويذكر من كان معه من الضباط.
هناك كثير من مراجع الغناء السوداني، لكن تخصص معاوية الاصيل هو في الفنانين الذين لم يكونوا في الصف الاول، أو لم تنتشر كثير من أغنياتهم، أسأله عن محجوب عثمان ” مالوا قلبي الآسروه” والخير عثمان “حنتوب الجميلة” ومدني صالح “سمسم القضارف” وعثمان عوض الله “حجر الزلط مين بيقيسو” والتجاني السيوفي “عيوني وعيونك”…وهو بهم خبير، كما كان من المحبين العظام للفنان التاج مصطفى.
كانت لديه سخرية مميزة من مدعي المعرفة، سواء كانوا كتابا وشعرا أو فنانين وغيرهم، ويطلق عليهم التسميات والألقاب، قال لي مرة أنه وجد فنانا في أمدرمان يغني آسيا وأفريقيا..” فسعدت بهذا الاختراق، لكن لما اقتربت من مكان الحفل وجدت الفنان يردد “صوت طيفور المغني”..ّ، فعدت أدراجي” وصار اسم الفنان طيفور. وصادفنا مرة فنانا آخر فوصفه لي ضاحكا “تخيل الزول دة بيغني من جناين الشاطئ ويقول الصدير الطافح..”.
كان نهما للمعرفة، واسع القراءة وسريع في ذلك، لذلك لم أكن أتردد في تسليفه كتاب طلبه مني، فغالبا سيرده لك خلال نفس اليوم، أو اليوم الثاني مباشرة، بعد أن يكون قرأه واستوعبه.
أخذته موجة الهجرة إلى كندا، ولم أكن أظن أنها ستناسبه، سافر معظم زملائنا في الجريدة، واستعصمت أنا بالرفض، كان هو مترددا، لكنه حسم أمره وسافر، لكن لم يطيقها فعاد موزعا بين القاهرة وأمدرمان….حتى رحل ذات صباح حزين قبل سنوات قليلة….رحمه الله.

طاقم جريدة الخرطوم بالقاهرة
وقوفا من اليمين: وديع خوجلي، معاوية جمال الدين، الاستاذ فضل الله، محمد راجي، مزمل المقبول، فيصل، عوض أبوطالب
جلوسا: محمد مصطفی الحسن، حيدر طه
رحم الله من رحلوا منهم

مقالات ذات صلة