والرجاء ألا ترتفع حواجب الدهشة لتلك الفئة من أهل الأحكام المسبقة، التصنيفات الجاهزة، عُمي البصر والبصيرة، بحيث يوحي لهم خيالهم المريض، بأن الأمر لا يعدو بأن يكون نوعاً من المداهنة والنفاق ومسح الجُوخ و”كسير التلج” ولكن الموضوعية تجعل التساؤل مشروعاً، فما وجه الاستثنائية التي يتحلى بها الفريق البرهان؟
مبدئياً يمكن القول أنه الرئيس الوحيد من بين الرؤساء الذين تعاقبوا على السودان منذ الاستقلال وحتى اليوم الذي يمكن أن يوصف بأنه قومي سوداني كامل الدسم، صفحته بيضاء ناصعة كالثلج في عز الشتاء، صافية كالماء الرقراق، لم تُلوَّث بشبهة من الحزبية أو الايدولوجية، أو القبلية أو المناطقية، فهو عبد الفتاح، وهو محمد صالح ومحمد احمد وأدروب وإساقة ، وطيور وآدم وجبريل
“all in one” ويمكن القول وبثقة وضمير مرتاح، أنه لم يأت من خلفية حزبية ولم تدفع به قوى سياسية أو إثنية أو طائفية، وغير ذلك، على غير الذين سبقوه من الرؤساء، فالأزهري والمحجوب وأحمد الميرغني والصادق المهدي وخائب الرجاء السفيه حمدوك ، أحزابهم معروفة وأهم من كل ذلك السند الطائفي، فالكل إما مسنود من طائفة الأنصار أو الختمية، أو السجادة الإسماعيلية نسبة للشيخ إسماعيل الولي، جد الزعيم الأزهري، أو سجادة الشريف الهندي، أما بقية السياسيين فحدث ولا حرج، فالكل رهن بين الطائفة والعائلة والحزب والقبيلة أو الأيدولوجية، مما جعل السياسة مهنة وباباً من أبواب الرمتلة والعمالة والارتزاق والارتهان لغير الوطن.
أما الذين جاءوا إلى السلطة عبر القوات المسلحة فهم لا يختلفون كثيراً عن الآخرين، فهم جاءوا إما بتدبير وتخطيط حزبي أو مؤامرة أو مباركة حزبية، ونموذج 17 نوفمبر 1958 بقيادة الفريق إبراهيم عبود، إنما تم بدعوة من رئيس الوزراء وقتها عبد الله خليل بيك “من حزب الأمة” للجيش باستلام السلطة، وملابسات ذلك معروفة لا ضرورة للخوض في تفاصيلها، وبمباركة من الإمام الصديق عبد الرحمن المهدي، والد السيد الصادق المهدي، وللإمام الصديق صورة تجمعه بالفريق عبود، ويقال إنه قال له “ربنا يوفقكم”
أما النموذج الثاني وهو 25 مايو 1969، بقيادة العقيد جعفر نميري، والمعروف أنه من تدبير الحزب الشيوعي السوداني وإن أنكر ذلك، واختاروا لعناصره مجموعة من أبناء الأسر المعروفة، حتى إذا فشل الانقلاب لا يتم إعدامهم، ومعظمهم من أبناء الهاشماب الأسرة العريقة بأمدرمان، منهم خالد حسن عباس، وأبو القاسم محمد إبراهيم وأبو القاسم هاشم ومأمون عوض أبو زيد وزين العابدين محمد أحمد عبد القادر، الذي والده أحد أقطاب الاتحادي. وهناك من ينسبهم على استحياء إلى القوميين العرب.
أما النموذج الثالث فهو الإنقاذ بتدبير الجبهة الإسلامية القومية، بقيادة العميد عمر حسن أحمد البشير، وإن طعمته بعناصر خارجية، كصلاح كرار وإبراهيم أيدام وبيويوكوان وغيرهم، ولم يستمر الوقت طويلاً حتى ظهر الإسلاميون بوجههم السافر يتقدمهم الدكتور حسن الترابي، وبقية التفاصيل معروفة.
أما الفريق اول ركن عبد الفتاح البرهان، فهو رجل قذفت به الأقدار في أتون الأحداث وجعلته في عين العاصفة، فهو لم يسع إلى السلطة ولم يردها كدأب غيره من الذين يطلبونها حثيثاً، إما بالترشيح، أو بالمغامرة الانقلابية كما يفعل العساكر والذين يحرضونهم، أو حتى بالغزو من الخارج، أو بالتمرد ورفع السلاح.
ولكن أين البرهان من كل هؤلاء، كان عسكرياً مهنياً يؤدي رسالته وفقاً للتراتبية العسكرية، وكان كما ذكر من قبل يمني نفسه بتقاعد هادئ وسط أهله وأسرته الصغيرة والممتدة بتلك القرية الوادعة على ضفاف نهر النيل “قندتو” ولكن تبخر كل ذلك، عندما اختارته الأقدار لحمل هذه الأمانة، في تلك اللحظات الفاصلة، التي اقتضت أن من يتصدى لها أيحمل روحه على كفه، عندما تقاعس الجميع عن حمل قرار العزل للرئيس البشير، فشعر أن القدر يناديه، وتأكد بأنه المعني، فقال أنا لها، متمثلاً بيت الشاعر الجاهلي بُشامة بن حُزن النهشلي ، في نونيته المشهورة.
إنَّا مُحيوكِ يا سلمى فحينا … وإن سقيتِ كرامَ الناسِ فاسقينا
وإن تَبتدر غايةٌ يوماً لمكرُمةٍ … تلقي السوابق منَّا والمصلينَ
ولو كان في الألفِ منَّا واحدأ .. فدعوا من فارسِ؟ خالهم إيَّاه يعنونا
وهكذا حمل الأمانة بعد أن حمل روحه على كفه، والذي يحمل روحه على كفه لن يكون طالب سلطة، وعليه يجب إعانته حتى يعبر بالوطن إلى بر الأمان، لأنه لا ينتمي لغير تراب هذا الوطن.
وحتماً سوف ينتصر السودان على مليشيا دولة الامارات وفي لحظة الانتصار سوف يندم كل من وقف في طريق الخطأ وكل من تخاذل وكل من اساء للسودان وشعبه وجيشة وكل من خان أو فكر في ذلك،سوف يسعد الشعب والصادقين وأصحاب المواقف الوطنية .