*الهندسة المرتصة للمجتمعات بقلم / محمد أبوزيد مصطفى*

_المنتدي الاحتزابي المسيس

الأحزاب السياسية تتميز بتكونها العضوي الذي يغطي سائر أنحاء الوطن مما يغذي فيها الروح اللاجهوية عدا ثلة محدودة ليست ذات أثر بالغ علي سكان تلك الجهات التي تتشرعن باسمها، ذلك لان الأحزاب ذات الصبغة القومية استقطبت غالب متشوفي السلطة ومستشربيها.
لكن يؤخذ عليها طائفيتها المتعصبة، وعقائديتها القحة،وصراعاتها اللامتناهية ، وهويتها المتعنصرة، الأمر الذي يخصم من كمال ولائها الوطني باستشراء خطاب الكراهية والعنف اللفظي، وصناعة الاذرع العسكرية المسيسة ارتماءاً في أحضان الأجنبي وخدمة لاجنداته الخفية المعلنة عمالة وارتزاقاً..
ويضاف الي ذلك ان غالب هذه القوي بلا برامج ورؤي للحكم بل ان بعضها لم يكن اغلبها ، لا يزال يعتاش علي شعارات ماضوية وتجارب تجاوزتها تطورات الحياة التي افقدتها القابلية للمواءمة والمواكبة.
هذا السلوك غير المحمود انتج بيئة سياسية ملوثة يحتاج اصحاحها لجهدٍ مضنٍ وصبور، تتاح فيه حريات بقدر محسوب وبتقويم محكم.

_اهل الفن والثقافة

الفنان المبدع شعراً منظوماً ونثراً مضوداً، أو لحنا واداءاً غنائياً وعزفاً،،، خطاً ورسماً تشكيلياً مهندساً ،يُري ويُحس في جمال الفن المعماري وروعته والتخطيط الحضري تصويراً وتمثيلاً،وعلي المسرح السينمائي والبث الفضائي،،
ان هذا المضمار تتمتع فيه بلادنا بثروة هائلة ومتنوعة من المبدعين وانتاجهم المتفرد الممتع،مما يعزز توحيد الوجدان ويساهم في تعزيز وتعميق الوحدة الوطنية.
إلا ان التربية الصوفية التي صبغت الشعب كافة برداءٍ كثيف من الزهد في ملذات الدنيا، غطي ودثّر كل هذا الجمال،،، بينما أورد الشارع إشارة بينة علي العناية بها بل أكد علي ان المتدين أولي بها من غيره، والمؤمن أحق بها من الكافر..
(قل من حرم زينة الله التي اخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا..) ..
انصار السنة الذين باينوا المتصوفة في طقوسهم واعرافهم لم يتحللوا من نهجهم السلوكي كُلاً بل جارَوهم في الزهد وهجران ملذات الحياة…
الحركة الإسلامية التي ناهضت الطائفية المتسربلة بلباس صوفي، قفزت فوق زهدهم واولت الاستمتاع المظهري بالحياة وملذاتها اهتماماً مقدراً وحققت معادلة موزونه بين استرخاص الحياة جهاداً في سبيل الحفاظ علي الوطن والدين وبين اعمار الحياة.
الحزب الشيوعي رغم مباينته للدين باعتباره افيون الشعوب وان الحياة الدنيا هي مبلغهم ومبتغاهم ،إلا ان الاشتراكية التي ساوت بين المنتج والمتبطل بحجة المساواة في الحقوق قد افقرت الاغنياء، ولم تغن الفقراء ،بل سحقت منسوبيها بتربية قاسية علي التقشف وشظف العيش مما جعلهم وكأنهم مطلّقون للدنيا بالكلية.
والمحصلة كانت زوال النظرية والامبراطورية بسبب مباينتها للفطرة التي فطر الله الناس عليها بأن جعلتهم متفاوتين في الرزق ولذا فقد امروا بالتنافس الحميد اثراءاً للحياة وسخرة لها واستمتاعاً بها.

_جماعات الدعوة والإرشاد الديني المحتسبة

الفراغ العلمي الذي اعقب سقوط الخلافة العثمانية ما بعد العام 1924م ملأته جماعات حسبة دعوية، اعتماداً علي ما ورثوه ممن سلف، واجتهادات محدودة ومشتتة هنا وهناك لان كثيراً من المخطوطات التي خلفها السابقون اما انها قد اُتلِفت، أو أن الوصول إليها كان عسيراً، وهي علي محدودية فقهها وفتاواها المتوارية، إلا أنها أحدثت ثورة علمية وإصلاح مرئي في عالم المجتمعات المسلمة، بل وامتد اثرها الي بلدان غير مسلمة، رغم حجم المطاردة والتجريم الذي تتعرض له بين الحين والآخر،،، وفي مسيرتها الممتدة فإنه قد أصابها ما اصاب الأولين من تمزق وتطرف واحتراب وتشقق لاتفه الاسباب.
والآن تحتاج هذه الجماعات الي نهج تربوي وقراءة جديدة في دفتر العلوم والفقه لتري بعين البصيرة والحكمة من أجل أن تتخطي هذه المرحلة الحرجة التي تداعي عليهم فيها القريب والبعيد لاستئصال شأفتهم وإيقاف مدّهم ومحو ما تبقي لهم من أثر وخلافة..

_طوائف التصوف الزاهد

التصوف مدرسة سنية لم تجد بداً من الانزواء والانتحاء جانباً، والاختباء خلف سراديب المغارات هروباً من الدنيا وملذاتها، وفراراً من بطش الطغاة وظلمهم، ولكن سرعان ما استشرت بينهم بدع لم تكن معروفة في عالم السنة ومحيطها، وتطورت لان تكون عالَماً مختصاً بذاته صابغاً المحيطه بصبغته مهيمناً علي الوجهة العامة، وقد وجدت فيه الأنظمة المستبده المعزولة ضالتها فاحتضنت هذه الطوائف ورعتها، وحكمت واستحكمت تحت مظلتها.
ولكن اليوم فقد تغير مسار الخطة، إذ لم يَعُد رعاة الامس ينظرون إليها بعين الرضا كما الامس، لأن اليقظة والثورة الإصلاحية من داخلها قد ارعبت المتربصين بالامة، وأصبحوا جادين في البحث عن بديل، بعد أن كانوا من قبل قد رسموا خططهم واستراتيجياتهم عليها، فلينتبه اشياخ التصوف وليحذروا من إعادة التدوير، ويتحتم عليهم أن يجددوا نهجهم الذي حافظ علي نشر تعاليم الدين في شعوب لا تنطق بكلمة التوحيد.

_مجتمع الرياضيين.

هذا المجتمع من أوسع واكبر الشرائح المجتمعية ذات الصبغة القومية بلا طبقية استعلائية او جهوية أو قبلية مقيتة، لكن مما يؤخذ عليه استشراء واستمراء الشغب وحِدّة التعصب والخصومات اللفظية المتفحشة غير المحتشمة، ولكن بقليل من التشذيب والتهذيب يمكن عبرها تعزيز الروح القومية

_العسكر وابناء الدفعة

إنه مجتمع ذي طبيعة خاصة معزولة في معسكرات،، قليل الارتباط بالمجتمعات المدنية، كما القضاة الذين تقتضي ادبيات مهنتهم قله الخلطة بالمجتمعات لئلا تطغي العاطفة فتضعف قوة القضاء في نصب ميزان العدالة ، ولذلك نجد ان العسكريين لهم انس خاص وارتباط اسري متين، خاصة [اولاد الدفعة] إذ المناقب وحكايات المعارك ولطائف وفكاهيات الميز والمعسكرات تسيطر علي ملتقياتهم،، هذا التلاحم الفربد يحتاج لدراسة معمقة وبمقاربة تنقل هذه الميزة لتُصبَغ بها بقية المكونات المجتمعية ، تتجاوز سياسة الجزر المعزولة التي اقتضتها ظروف المهنة.

_رجال المال والاعمال

هؤلاء يُحدثّهم غرضهم، ويسيطر عليهم استراق المعلومة وتخابر حركة السوق والأسعار واقتناص الفرص خلسة،،، ويسري بينهم احياناً التنافس الخفي والتآمر غير الحميد،،، لكن التنافس الشريف والتعاون المحفز والشراكات الامينة الآمنة والمؤمّنة هو النهج الذي تتحقق به المكنة والتفوق والاستعلاء الراشد (وانتم الأعلون إن كنتم مؤمنين)..
اما شركة الرجل الواحد، وفض الشراكات من أجل التميز الفردي فلن يتحقق به عزٌ جمعي، بل هو مدعاة للطغيان.. (كي لا يكون دولة بين الاغنياء منكم)..
ويزداد المال كما العلم بالإنفاق، تراحماً وتكافلاً، لتحل البركة،،
ويحجر علي السفيه الذي يبدد المال بغير رشد ~مالكاً أو كفيلاً~ التصرف في المال ، (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً… )…
والشفافية الغامضة في حركة المال والاقتصاد مطلوبة، والاحتكار والمغالاة في الأسعار والربح الفاحش، الذي ينغص علي الكافة حياتهم يجب التدخل لكبحه..
القروض مبنية علي الفضل ولذلك تكون {حسنة} ، وبالتالي فلا يُطلَب مقابلها ربح ٌ، ف[كل قرض جرّ نفعاً فهو رباً] ،، والبيوع مبناها علي العِوَض~المقابل~ والسلعة تباع بمثلها بلا تفاوت في الوزن والقيمة،،
وللضرورات أحكامها الانتقالية ف[لضرورات تبيح المحظورات]..
وأما الغرر واخفاء عيب السلعة تربُّحاً فإنه أمر معيب يضرب الشفافية المالية في احشائها ويُفقِد الثقة بين العملاء..

_الدبلوماسيون

المنتدي الدبلوماسي يمثل بيت خبرة في السياسة الدولية التي تمور بتقلباتها وحركتها المتموجة حرباً وسلماً، ومصالحها الاقتصادية، وتبادلاتها الثقافية وتمازجها الاجتماعي بفعل الهجرات والفضاء المفتوح..
إن مجتمع هذا النادي ملئ ومترع وثري بالمعلومات والاسرار والخفايا التي يشاركه فيها جهاز المخابرات.

_الاعلاميون

انهم مجتمع المعلومة والبحث المضني عنها، ورصد الأحداث وتتبعها، وصناعة الرأي العام، والتأثير الإيجابي والسلبي علي الاستقرار السياسي،، وتمثل المصادر قاسماً مشتركاً مع الأجهزة الأمنية في الرصد المتتبع، والتحري المباشر وغير المباشر لقراءة ما بين السطور عبر الوسائل الناعمة والخشنة لكلٍ حسبما يناسبه

_المعاشيون أرباب المهن

هؤلاء تجمعهم الأندية والمقاهي وموائد [الكتشينة والضمنة] للتسلية وتقضية الوقت وقتل المَلل،، وكذلك مناسبات الأفراح والاتراح، بينما لا تخلو مجالسهم من الحديث السياسي والرياضي، وتتبع اخبار زملاء المهنة، وتبادل الزيارات..
هؤلاء يجب أن يتمتعوا بتمييز إيجابي في الاستحقاق المعيشي، والضمان الاجتماعي، والتأمين الصحي، تقديراً للخدمة الطويلة التي قدموها لوطنهم وشعبهم.

_أبناء العشيرة والقبيلة

الرحم اقوي رابطة تجمع منتسبيها في كل المناسبات خاصة المآتم والزيجات والأعياد، وبينهم تكافل وتزاوج،، وبعض المجتمعات الريفية النائية تسيطر عليها عصبية القبيلة، ويفزع بعضهم بعضاً حين تنشأ نزاعات دونما مراعاة للاخذ بيد المعتدي ان كان منهم،، وقليل من الحكماء من يلجأ الي الصلح والجودية حقناً للدماء، أما اهل الحضر فإنهم يلجأون الي التقاضي ولا يأخذون القانون بايديهم.
هذه الشرائح ينبغي أن تتنزل اليها السلطة المحلية الي ادني مستوياتها، ويقترب منها الظل الإداري للدولة الحديثة، ويُبسَط فيها سلطان القانون.ويتوافر فيها التعليم العام الزاماً، وأن تتمدد فيها الخدمات الصحية الأولية افقياً يستمتع بها القاصي والداني .
……. ……. …..

هذه النماذج وغيرها تمثل خلايا مشتتة ومعقدة لكلٍ منها ما يخصها من سلوك وتقاليد متنوعة، تستزلم ان تُستَجمع في منظومة متسقة متجانسة يكمل بعضها بعضا دونما اضطراب أو اصطراع، وهذا النَظْم يحتاج لقيادة ماهرة تجتهد في الاستنان بسنة الله في حسن تدبير كونه واتقانه.. (لا الشمس ينبغي لها ان تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، وكلٌ في فلك يسبحون)..
فالله وحده المتفرد بالكمال والجلال، والانسان خلق ناقصاً، لا يحيط بكل شئٍ علماً، ولم يعطه الله من العلم الا قليلا.، ولذلك فإن العقل الجمعي يحقق من الإتقان ما يعجز عن مثله الفرد، ولذا فإن نصف رأيك عند أخيك، (وشاورهم في الأمر) ،لذا فإن استخلاص اسدّ الآراء وأقربها الي الصواب سيقود بالضرورة الي تتحقيق المصالح الراجحة من الاستقرار والرفاه …
وحينئذٍ فعلي قيادة الدولة ان ترعي كل ذلك بنهج مُدستَر مقنن وبلوائح مفصلة، تُحدِّد الرؤيا، وترسم الخطط والبرامج وتهيكل شرائح المجتمع ومؤسسات الدولة المتراصة المترابطة المتكاملة مستصحبة افضل ما انتجه العقل البشري والتجربة الإنسانية ..

.