تابعت باهتمام بالغ الخطاب الأخير الذي أدلى به رئيس الوزراء السوداني الدكتور كامل إدريس، والذي أعلن فيه عزمه تشكيل حكومة “تكنوقراط مستقلة” خالية من الانتماء الحزبي. كما أشار في أكثر من موضع إلى أن المرحلة لا تحتمل مشاركة الأحزاب، وأن حكومته ستقف على مسافة بعيدة عن كل القوى السياسية. واهتممت بالحوار السياسي، وهالني تقديرات أؤمن أن الدكتور كامل إدريس لا يعنيها، ولا يقصدها، فُهِم منها استعداء للحزبية، جاء فيها أن معاليه يضع الانتماء الحزبي في مصاف العصبيات الممزقة للنسيج الوطني، ويُحمّله ضمنًا مسؤولية الانقسام والتفكك الوطني. وهذا غير صحيح، وهو من صميم أخطاء الأنظمة الشمولية التي سعت إلى حل الأحزاب السياسية ، ومعاداتها، كما فعل النميري والبشير وغيرهم.كما أنفي عن حديثه عن المحاصصة، أنه يُحمّل الحزبية مسؤولية ترسيخ الفساد الإداري والسياسي، ولا أظنه يطرح استئصالها كأحد أهدافه المركزية، فالأحزاب ليست عقبة أمام الحكم الرشيد.
في كل حزب سوداني يوجد آلاف التكنوقراط المهنيين، والخلط بين التكنوقراط وبين شرط عدم الحزبية، خلط خاطئ. وتمييز مؤسسي غير مسبوق ضد أي شخصية تحمل عضوية أو تجربة حزبية. أن تُقصي كل من خدم في حزب أو آمن بفكر جماعي، فهذا يُفرغ الدولة من الكوادر السياسية والمدنية التاريخية. هل نرمي بثلاثة أجيال من الكفاءات السياسية لمجرد أنها تحمل عضوية تنظيمية في أحزاب سياسية ؟ وأنا واثق أن هذا المعنى ليس ما يقصده رئيس الوزراء، فإن الدولة لا تُبنى بالفراغ، ولا تُدار بالاشتباه المسبق في نوايا مواطنيها.
أما أخطر ما يخيفني، فهو الزعم بأنّ الحكومة لن تتعامل مع القوى السياسية؛ بقوله “سأقف على مسافة واحدة من الأحزاب، وسألغي هذه المسافة مع الشعب” وهذه تحتاج إلى توضيح منه، بلقاء الأحزاب السياسية، فإذا كان المقصد كما يروج البعض أن رئيس الوزراء يتجاهل الأحزاب كقوى تمثيلية، ويرفض التعامل معها كأطراف رئيسية في العملية السياسية وفي الحوار السياسي أو في صناعة القرار، فهو يقود مفهوم “حكم خارج السياسة”. وهو ما أستبعد أن دولته يقصده ويريده.
فالحياة الحزبية ليست ترفاً سياسياً، ولا عبئاً على الوطن، بل هي جوهر الفعل الديمقراطي وأساس الدولة المدنية الحديثة. ويجب على الدولة النظر إلى الأحزاب كشريكٍ إيجابي في الحياة السياسية، وذلك بعدما ظلت هذه الأحزاب دائماً محاربة ومقاطعة من الحكومات الشمولية وأجهزتها، ويُنظر إليها بعين الريبة. ولا يختلف اثنان على وجود موقفٍ رسمي سلبي ومعادٍ للعمل الحزبي، يتجلّى دائماً من خلال تصنيفه ملفاً أمنياً لا سياسياً، ووصل الأمر في أزمنة بعض الحكومات السابقة الي محاربة الحزبيين في أرزاقهم وأعمالهم ومصالحهم، مع صياغة القوانين والتشريعات لمزيد من الإقصاء للأحزاب، والسعي لإغراقها في أزمات مصنوعة.
إن الأحزاب السودانية، ورغم ما اعتراها من أزمات بنيوية، تبقى حاملةً لتطلعات قطاعات واسعة من الشعب، ومعبّرة عن التنوع السياسي والفكري للسودان. والحزبية ليست وجهًا للتعصب، بل وسيلة حضارية لتنظيم الخلاف. ومن الظلم وضع العمل الحزبي في مصاف الطائفية والجهوية والعنصرية، فالأحزاب الوطنية كانت عبر التاريخ معبرًا للاندماج لا للانقسام، وموئلًا للمصالحة لا للإقصاء. إن المشكلة في الممارسات، لا في المبدأ، والإصلاح لا يكون بنسف التنظيم بل بتقويمه.ومن غير المعقول – ولا المقبول – أن يدعم البروفسور كامل خطاباً ينفي شرعية الحزبية ويقصيها من المشهد باعتبارها سبباً للأزمة.
إن تاريخ السودان الحديث – في فتراته الديمقراطية – لم يُكتب إلا بقلم الأحزاب، ولا يزال ملايين السودانيين يؤمنون بمشروعها السياسي كوسيلة سلمية للتغيير.اذن مطلوب ضرورة أن يطرأ تغيير في الذهنية الرسمية في التعاطي مع الاحزاب السياسية ونشاطها مع التحذير من مضار النظر للأحزاب كعدو.
وأؤكد أن القوى السياسية لا تطالب بالمشاركة في السلطة التنفيذية الانتقالية، ولا تسعى لمحاصصة أو مناصب. فهي من دعت الي أن تكون الحكومة المدنية الانتقالية الجديدة مستقلة وغير حزبية ، بل إن مطلبها المشروع الوحيد هو الالتزام بإجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة في أجل لا يتجاوز ٣٤ شهرًا، تُعاد فيها السلطة للشعب السوداني صاحب الكلمة الفصل عبر صندوق الانتخابات.
المحاصصة شيء، والحزبية شيء آخر.
من حق السودان أن يرفض المحاصصة المريضة التي تقاسمت فيها الأطراف السلطة دون برنامج. لكن من غير المقبول تحميل “الانتماء الحزبي” وزر الفساد. والمحاصصة ذاتها، ليست مذمومة إن كانت تحالفية، وبرنامجية. فكثير من أنقى السودانيين وأكثرهم كفاءة مرّوا عبر الأحزاب. الجدارة لا تُلغي الانتماء، بل تُقوّمه.ونود أن نقول بأنّ السودان لا يحتاج إلى إقصاء جديد، بل إلى عقد وطني شامل يحترم أدوار الجميع ويمنح الشعب حق الاختيار. ولن يكون هناك انتقال ديمقراطي حقيقي إذا جرى تعطيل الحياة الحزبية أو شيطنتها أو تهميشها باسم الكفاءة أو الاستقلال.
إن الشعب السوداني معلم الشعوب، ليس كتلة صامتة، بل ناطقة بأحزابه ونقاباته ومنظماته. والتاريخ لم يُكتب بالمنصات الإلكترونية، بل بنضال السياسيين، وتضحيات النقابيين، ومبادرات المجتمع المدني. من يريد التغيير حقًا، فليتقدم إلى حوار شامل، لا إلى خطاب يلغي الآخر.
إني أري غليانا يجري داخل أسوار القوي السياسية السودانية، بسبب استبعادهم من المشاورات والاستماع الي رؤاهم حول أولويات المرحلة الانتقالية وهم أصحاب تجارب متراكمة في الحكم وأصحاب تأييد جماهيري عريض، ولا يمكن ان تكون هناك مشروعية لعملية سياسية بدون أحزاب، وعليه فإنني أدعو رئيس الوزراء إلى مراجعة خطابه السياسي تجاه القوى السياسية الوطنية، واعتماد مقاربة أكثر واقعية وتوازنًا، تفرّق بين إصلاح الأحزاب وتهميشها، وتبني التعدد لا الانفراد. وتأبي المقايضة بين الاستقرار والديمقراطية، أو بين الديمقراطية وعسكرة الحياة السياسية، وترفض أي دعوة تطالب بحلول غير دستورية، وتمثل في حقيقة الأمر محاولات للانقلاب الناعم على التحول الديمقراطي وعرقلة الحكم المدني .
وأخشي ما أخشاه أن تؤدي محاولات تهميش دور القوي السياسية الي عواقب وخيمة وتأزم أكثر للأوضاع، بل إنه قد يؤدي لانهيار أو تفكيك الدولة، وسيتسبب في توترات اجتماعية وفوضى لا يقبلها أي سوداني، خاصة أن بلادنا لا تتحمل المزيد من الهزات أو الأزمات.
وباسم الحزبيين أؤكد بأننا سنظل، من موقعنا الوطني، داعمين لكل جهد صادق ينشد السلام والاستقرار، واثقين من رؤية رئيس الوزراء، وداعمين له، ولكن ننصحه بالجلوس مع الأحزاب الوطنية، والاستماع لرؤيتها، فالاستماع والحوار، لا يعني المشاركة في الحكم أو اقتسام السلطة . وأنا أعلم أن إستبعاد كامل ادريس للقوي السياسية من المشاركة في حكومته لا يعني بأي حال من الأحوال معاداته للحزبية أوتبخيس قيمتها والسعي لاستئصالها من السودان وتشييعها الي مثواها الأخير كما يتمني البعض من أولئك الأشخاص الشموليين الذين لا يربطهم بالنضال الوطني إلا “الخير والإحسان!!.