*دموع الفاشر فتحت عيوننا.. فنهض الشمال ليعيد لنا إنسانيتنا*

حين صمت العالم واختبأت المنظمات خلف شعاراتها الباهتة، وحين دفنت بعض الدول القريبة رؤوسها في رمال العار، لم تكن هناك إغاثة ولا رحمة.
لا بيانات، لا طائرات تحمل الغذاء، لا دمعة صادقة في وجه المأساة. كانت الفاشر تموت ببطء، والعالم يراقبها من خلف الشاشات كأنه يشاهد فيلمًا عن بشرٍ منسيين.
من بين الركام خرجوا أهل الفاشر، يجرّون وجع البيوت المحروقة، وذكرياتٍ ثقيلة من الخوف والخذلان. خرجوا لا يطلبون صدقة، بل يبحثون عن الأمان، عن امان يضمّهم دون سؤالٍ ولا حساب.
وحين وصلت خطاهم إلى أرض الشمال، فتحت الشمالية قلبها قبل أبوابها. لم تُسأل الأسئلة الصغيرة التي تمزّق الناس، ولم تُرفع في وجوههم الهويّات، بل قيل لهم ببساطةٍ سودانية خالصة: أهلاً بكم، أنتم بين أهلكم.
في الشمالية، ذابت المسافات بين الناس، وتعانقت الدموع. تقاسم الجميع اللقمة والماء والوجع. هناك لم يكن القادم “ضيفًا” ولا “نازحًا”، بل أخًا عاد من المعاناة إلى حضنٍ آمن.
وهكذا أثبتت الشمالية أن النخوة لا تموت، وأن السودان ما زال حيًّا في ضمائر بسطائه. وأن الكرامة حين تشتدّ الأزمات، تُولد من أيدي الناس لا من مكاتب المسؤولين.
أهل الفاشر في حاجةٍ إلى حضننا، ونحن في حاجةٍ إلى أن نتذكّر أننا شعبٌ واحد، لا يفرّقنا شيء حين تنادي الكارثة.
لقد ذاقوا الأمرّين من المليشيا — جوعًا واغتصابًا وتشريدًا وظلمًا لا يوصف. جاؤوا إلينا يحملون وجوهًا أنهكها الألم، فكان ردّ الشمالية فعلًا لا قولًا: نحن الوطن حين يتنكر الوطن.
وبينما الشمال يحتضن جراح الفاشر، ينهض سؤالٌ موجع:
أين هم قادة الكفاح المسلح؟
لماذا لم يذهبوا إلى النازحين؟
هل خجلوا من الوجوه التي صدّقتهم ذات يوم؟ أم أن الأمر لم يعد يعنيهم بعد أن اطمأنّوا إلى مقاعدهم وامتيازاتهم؟
أين أنتم يا من رفعتم السلاح باسم المظلومين؟
الناس الذين صدّقوكم لم ينتظروا منكم خطابات ولا بيانات، بل يدًا تمتدّ إليهم. كانوا ينتظرون منكم أن تكونوا أول من يصل إلى المخيمات، لا آخر من يتذكّرها في نشرات الأخبار.
لقد خذلتم الناس مرّتين: مرة حين فشلتم في حمايتهم، ومرة حين غبتم عنهم في لحظة الحاجة.
والشمالية اليوم تكشف عجزكم أمام التاريخ.
التاريخ الذي لا يرحم، ولا ينسى من تخلّى عن إنسانيته في زمن المحنة.
حين صمت العالم، وتخاذلت المنظمات، نهضت الشمالية لتعيد تعريف معنى الوطن.
وفي زمنٍ غابت فيه الشعارات، وقف هناك ضميرٌ واحدٌ يقاوم العار ضمير الإنسان السوداني الأصيل.، المنظمات الإنسانية التي لا ترى إلا ما يناسبها، ويا قادة الكفاح الذين صمتوا:
احفظوا هذا المشهد جيّدًا —
حين خان الجميع، كانت الشمالية هي من أنقذت شرف الوطن.
وحين ذاق أهل الفاشر الأمرّين من المليشيا، وجاؤوا إلينا مثقلين بالجراح، احتضنهم الشمال وقال للعالم:
نحن من تبقّى من السودان الحقيقي… السودان الذي لا يموت.الوطن واحد لا يتجزأ، والجرح الذي نزف في الفاشر هو ذاته الذي يسيل في صدورنا جميعًا. دموعهم أمس كانت الرسالة الأصدق، تخترق صمت العالم لتقول إن الفاشر لم تسقط وحدها. سقطت إنسانيتنا معها، وسننهض ما دام فينا قلب ينبض باسم السودان

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole