انصرف الإعلام كليًّا إلى قبلة البرهان على رأس سيدةٍ دارفوريةٍ لفظتها الحرب إلى مدينة الدبة بالولاية الشمالية. وظهر البرهان في الإعلام كرجل دولةٍ يرقّ قلبه لأحزان الناس، ويغضب للظلم، ووراء البرهان عقلٌ سياسيٌّ حصيف يعرف كيف يُقدِّم البرهان كقائدٍ سياسيٍّ وجنرالٍ عسكري.
زيارة البرهان للدبة وطوافه على البؤساء والفقراء والمطرودين من ديارهم بغير حق، بما تحمله من أبعادٍ إنسانيةٍ واجتماعية، لا تمثل خبرًا عابرًا، بل حدثًا جديرًا بالتأمل والتفكر: كيف عبرت آلاف النساء والرجال من بقايا الموت، الهاربين من جحيم الرصاص، أكثر من سبعمائة كيلومتر سيرًا على الأقدام أو على ظهور الدواب أو في اللواري، حتى وصلوا إلى الدبة؟
إلى أرض “الجلابة” الذين — كما يُقال — يظلمون الغرابة ويقتلونهم ويقصونهم من السلطة ويتخذونهم عمالًا!
لم يتجه هؤلاء المقهورون إلى نيالا، حيث يُفترض أن تكون “العدالة والحرية والنظام الديمقراطي ودولة العطاوة”، التي من دخلها كان آمنًا في نفسه وماله — ونيالا لا تبعد عن الفاشر إلا نحو مائتي كيلومتر.
ولم يتوجه ضحايا الفاشر إلى الضعين، حيث يُقال إن هناك رخاءً في العيش ومساواةً اجتماعيةً بين “الزرقة” و”العطاوة”.
ولم يصعدوا إلى جبل مرة من تابت إلى ركرو وسرونق، حيث “دولة عبد الواحد محمد نور” التي تتفيأ ظلال العلمانية وإقصاء الدين من الحياة.
قصة النازحين من الفاشر إلى الدبة هزمت كل دعاوى خطاب الكراهية.
فمن غير خطبٍ ولا توجيهاتٍ حكومية، اختار النازحون من الفاشر الدبة — حيث إخوتهم من أهل الشمال — الأقرب إليهم خُلقًا وقيمًا وسماحةً وفضلاً وعطاءً.
ومن أم درمان، شدّت تكية الشيخ الإنسان الأمين عمر البنا (الشهير بشيخ الأمين) رحالها إلى الدبة لتُطعم إخوةً في الله وفي الوطن ووشائج الدم والتاريخ.
وفتح أهل الدبة من الشوايقة والرباطاب والجعليين والمحس والدناقلة وعرب الهواوير قلوبهم قبل بيوتهم، وانتشرت التكايا وعطاء الخير، لتُهزم في الدبة كل دعاوى خطاب الكراهية الذي يسعى لتفريق أهل السودان.
الدبة اليوم تفضح — بالفعل لا بالقول — دعاة “دولة العطاوة” التي فرّت من قسوتها وجبروتها آلاف الضحايا، تاركين الفاشر ينعق في بيوتها النسور التي تأكل الآن من لحوم البشر، كما خرجت من نيالا كل مكونات دارفور غير “العطاوية”.
فكيف لميليشيا كهذه أن تدّعي أنها تحارب الظلم وتسعى لإقامة دولةٍ على أنقاض دولة (56) — تلك الدولة التي لجأ إليها أهل دارفور من بطش الجنجويد وقتلهم للناس على الهوية العِرقية؟
والعالم الحرّ كله اليوم يقف مع الضحايا — إلا الإمارات وبعض “القُحاطة” الذين يطالبون بشنق جثث الضحايا على جذوع الأشجار!




