خضوع السودان لشروط البنك الدولي وصندوق النقد في سياق حرب داخلية وغزو خارجي يشكّل تهديدًا مباشرًا للسيادة الاقتصادية والسياسية. المنظومة الدولية تستخدم أدوات مالية تبدو فنية، لكنها تُفضي إلى نفوذ سياسي عميق يمسّ أولويات الإنفاق، وهيكل الاقتصاد، وقدرة الدولة على إدارة مواردها وفق متطلبات الأمن القومي.
*أولًا: طبيعة الخطر*
البنك الدولي لا يقدّم تمويلًا محايدًا، بل يقترن ذلك دائمًا بإصلاحات هيكلية مرتبطة بنموذج اقتصادي واحد قد لا يلائم الظروف الوطنية. هذه الإصلاحات تُفرض غالبًا تحت عنوان “تحقيق الاستقرار”، لكنها عمليًا تنتج ثلاثة أخطار رئيسية:
1. تقييد القرار المالي والاقتصادي وتحويله إلى عملية مراقبة خارجية طويلة الأمد.
2. إعادة تشكيل أولويات الدولة على حساب الحاجات الملحّة مثل الجهد الحربي، إعادة الإعمار، ودعم الفئات الأكثر تضررًا.
3. خلق مسار تبعية مؤسسية يجعل تعليق التمويل أو تأخيره وسيلة ضغط فعّالة.
*ثانيًا: السياق السوداني يزيد حجم التهديد*
السودان يخوض حربًا وجودية ضد ميليشيا متمرّدة مدعومة خارجيًا، ويمر بمرحلة إعادة تشكّل كاملة للبنية المؤسسية والأمنية. هذا يجعل أي ضغط مالي أو اجتماعي ضخم قادرًا على التأثير في تماسك الجبهة الداخلية.
عوامل الحساسية الأساسية في اللحظة الحالية:
• هشاشة المالية العامة خلال حرب ممتدة.
• حاجة الدولة إلى تأمين الإنفاق الدفاعي واللوجستي دون قيود.
• التوقعات الاجتماعية العالية تجاه الدولة بعد الصدمات الإنسانية الواسعة.
• استعداد الأطراف المعادية لاستغلال أي اضطراب اقتصادي أو اجتماعي.
• هشاشة الثقة الشعبية تجاه أي برنامج خارجي فُرض خلال أزمات سابقة.
*ثالثًا: آليات النفاذ التي يستخدمها البنك الدولي*
هذه الآليات لا تأتي دفعة واحدة، بل تُبنى تدريجيًا عبر تراكم شروط صغيرة تُنتج لاحقًا تحكمًا واسعًا:
1. الشروط المسبقة (Conditionality)
• فرض رفع أسعار الطاقة والوقود.
• إلغاء أو تقليص دعم السلع الغذائية الأساسية.
• تحرير سعر الصرف في توقيت غير مناسب.
• فرض زيادات ضريبية ذات أثر مباشر على المواطنين والقطاع الخاص.
2. الخصخصة المباشرة وغير المباشرة
الضغط باتجاه خصخصة أصول استراتيجية عبر البيع أو عبر الشراكات العامة–الخاصة (PPP)، مما يؤدي عمليًا إلى فقدان السيطرة على قطاعات حسّاسة مثل الموانئ، الطاقة، الاتصالات، المياه والطرق.
3. ضبط الوظيفة العامة
إعادة هيكلة الخدمة المدنية، تقليص التوظيف الحكومي، وفتح قطاعات كانت محتكرة للدولة أمام شركات خارجية أو مؤسسات تتبع للدائنين.
4. التحكم في أولويات الموازنة
تحويل الإنفاق من الدفاع والبنية الأساسية إلى برامج “إصلاحية” يحددها البنك الدولي، بما يقيد قدرة الدولة على إدارة الحرب وإعادة الإعمار.
5. النفوذ عبر الحوكمة والشفافية
وضع شروط محاسبية وقانونية تُستخدم لاحقًا للتدخل في القرارات السياسية تحت مظلة “تحسين بيئة الأعمال”.
6. الاعتماد طويل الأمد
تراكم القروض والمشروطيات يؤدي إلى تبعية تجعل قدرة الدولة على الانفصال عن البنك الدولي شبه مستحيلة دون تكاليف باهظة.
*رابعًا: الآثار المتوقعة للخضوع للشروط*
هذه الآثار ليست نظرية، بل نمط متكرر عالميًا، وتكون أقسى على الدول الخارجة من الصراعات أو التي تخوض حروبًا:
1. تآكل القدرة على تمويل الحرب
التقشف المفروض يحدّ من قدرة الدولة على تمويل الدفاع، الدعم اللوجستي، التعويضات، والإغاثة الإنسانية.
2. اضطرابات اجتماعية واسعة
رفع الأسعار المفاجئ، خصوصًا في الوقود والغذاء، يؤدي إلى انكماش اقتصادي سريع، وارتفاع البطالة، واحتقان اجتماعي يستغله أعداء الداخل والخارج.
3. فقدان السيطرة على القطاعات الاستراتيجية
خصخصة الموانئ، الكهرباء، أو الشركات الوطنية الحيوية تُضعف قدرة الدولة على التحكم في الاستثمار، التجارة، والموارد.
4. انكماش اقتصادي حاد
تراجع الطلب، انهيار القوة الشرائية، تضخم مستورد، وتآكل القطاع الخاص المحلي لصالح شركات عابرة للحدود.
5. تحوّل القرار الاقتصادي إلى عملية مشتركة بين الدولة والدائنين
أي خلاف أو تعثر في تطبيق السياسات قد يؤدي إلى تجميد التمويل، ما يجعل القرار الاقتصادي الوطني رهينة.
6. انكشاف سياسي
تُستخدم المشروطيات لاحقًا كورقة ضغط على الدولة في ملفات سياسية، دبلوماسية، وحتى عسكرية.
الخطر الأساسي لا يتمثل في التعامل مع البنك الدولي بحد ذاته، بل في الخضوع غير المشروط لشروطه في توقيت يعاني فيه السودان من حرب، إعادة تشكّل مؤسسي، وتوتر مجتمعي واسع. هذه البيئة تجعل أي تدخل خارجي في السياسات الاقتصادية قادرًا على تغيير مسار الحرب والاستقرار السياسي بالكامل.
*د. عبدالعزيز الزبير باشا*
*مختصص في ادارة المخاطر الاستراتيجية والاقتصادية*
_*03/12/25*_
_حصري لصحيفة براون لاند_




