*دارفور… حين يبدأ حصادُ الأجساد وينتهي كل شيء اسمه إنسان*

ما عاد في دارفور ما يمكن تجميله أو تغليفه أو تغطيته. كل شيء احترق. كل شيء انكشف. وكل ما قيل عن الفظائع التي تمارسها المليشيا في الفاشر—من احتجاز النساء والرجال والأسر، ثم استئصال أعضاء بعضهم ونزع دمائهم لإنقاذ جرحى القوات المهاجمة—ليس إشاعة ولا مبالغة، بل فصل جديد من كتاب أُريد له أن يُدفن في صمت. لكن الحقيقة أكبر من أن تُدفن… لأنها تخرج من بواطن الضحايا أنفسهم، من جروحهم المفتوحة، ومن عيون الأسر التي فُجعت بما لا يُصدَّق.

نحن أمام جريمة ليست من زمننا. جريمة لا لغتها تشبه لغة البشر، ولا أدواتها تشبه أدوات الحرب. هذه ليست معركة بين جيشين، بل عملية ممنهجة لتفكيك الإنسان قطعةً قطعة، وتحويل الجسد إلى “مادة خام” لصيانة مشروع عسكري مريض لا يعيش إلا بانتهاك الحياة نفسها.

أيّ عقلٍ يُفكّر في تحويل أبناء الفاشر إلى مخزون بشري؟ أيّ عقلٍ يتعامل مع الإنسان كما لو كان أنبوب دم جاهزًا للشفط؟ كيف يُختطف مواطن من بيته، من حوشه، من طريقه، ليُساق إلى غرفة مغلقة يُسحب فيها دمه بالإجبار؟ وكيف يُستأصل عضو رجل أو امرأة—جزء من جسدهم، من كرامتهم، من وجودهم—ليُحقن في جسد مليشياوي جريح؟!

أهذه حرب أم هندسة إبادة؟
أهذا صراع سياسي أم مختبر للموت؟
أهذه دولة تُذبح على أطرافها أم عصر جديد من الإجرام لا سابقة له في كل سجل السودان؟

نحن لا نعيش فوضى… نحن نعيش مشروعًا. كلمة “انتهاكات” لم تعد صالحة. كلمة “جرائم” لم تعد دقيقة. ما يجري في الفاشر هو إعادة تعريف الجريمة. هو ابتكار طريقة جديدة لسفك الدم لا تحتاج للسلاح، بل لمشرط ومنضدة وتواطؤ.

والمصيبة ليست في الوحشية نفسها… بل في الصمت.
الصمت الذي يُزيّن البيانات، ويُرنّم في الأمم المتحدة، ويُقرأ كتعويذة سياسية لا تُسمن ولا توقف نزيفًا. العالم لا يرى دارفور. العالم لا يسمع صرختها. العالم مشغول بترتيب مقاعده في مؤتمرات الكذابين، بينما نساء دارفور يُسحب دمهن بالقوة… بينما رجال دارفور يُفقدون أعضاءهم وهم أحياء… بينما الأسر تُمحى من الوجود.

أين الذين ادّعوا الإنسانية؟
أين من يملؤون الشاشات بالحديث عن حقوق الإنسان؟
أين الذين يتشدقون بحماية المدنيين؟

لقد صاروا مجازًا من مجازات النفاق الدولي. يكتبون بيانات باردة بينما تُنتهك أجساد حارة تنزف. يتحدثون عن “مخاوف” و”قلق” و”رصد أولي” بينما المليشيا تحوّل الفاشر إلى غرفة عمليات كبرى لاقتلاع ما تبقّى من أجساد الناس.

ونحن هنا لا نتحدّث عن فعل فردي، عن جنون جندي واحد، عن حادثة واحدة. هذا فعل منظّم، يجري تحت ضوء حراسة، وتحت غطاء سياسي وعسكري وإعلامي. لم يصلوا إلى مرحلة “حصاد الأعضاء” صدفة. لم يستيقظوا يومًا وقالوا: فلنجرب انتزاع عضو فلان. هذا قرار. قرار مُريع، مُخطط له، محمي من فوق ومن تحت.

هذه ليست دارفور التي عرفناها. هذه ليست الفاشر التي كانت يومًا قلب الريف السوداني وملاذ التجارة والسوق. هذه مدينة تُستنزف من داخلها، من لحمها، من دمها. مدينة تحوّلها المليشيا إلى بنك دم قسري يخدم مشروعًا لا يعرف الشبع.

وإن كان هناك من يظن أن هذه الجرائم ستُطمس، فليقرأ تاريخ دارفور جيدًا. فهذه الأرض ترفض أن تُدفن الحقيقة. ترفض أن تختفي الأصوات. ترفض أن تُبتلع في صمت. لقد قتلوا البشر… لكنهم لم يستطيعوا قتل الذاكرة.

والسؤال الذي سيظل معلقًا فوق رؤوس الجميع:
كيف يمكن لمليشيا أن تصل إلى مرحلة اقتلاع أعضاء الناس دون أن يكون وراءها داعمٌ، ممول، متواطئ، ومسوّغ سياسي؟
من الذي سهّل؟ من الذي صمت؟ من الذي بارك؟ من الذي استفاد؟
هذه الجرائم لا تحدث في الفراغ. هذه الجرائم تحتاج إلى منظومة كاملة من الخيانة.

ولمن يظن أن دارفور ستتعافى وحدها… فهو لا يفهم. دارفور لا تُشفى بالطمأنات الفارغة. ولا تتعافى بالبيانات الجبانة. ولا تُنقذها جملة “ندين بشدة” المكتوبة على عجل. دارفور تحتاج إلى قول الحقيقة كاملة، بلا مواربة، بلا تردد، بلا خوف.

والحقيقة هي:
أن الدعم السريع تحوّل إلى آلة موت تعمل بالدم البشري.
أن ما يجري في الفاشر هو إبادة بيولوجية، وليس مجرد صراع.
أن الصمت الدولي شريك كامل في الجريمة.
وأن الذين يحاولون ابتلاع الحقيقة اليوم… سيبتلعهم التاريخ غدًا.

دارفور لا تبكي.
دارفور تُنزف.
دارفور تُصفى.
ودارفور لن تسامح أحدًا

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole