*الزبائنية: كيف يعاد تشكيل الدولة من الداخل؟(١) رشان اوشي*

اصبح “الفساد” قدراً مظلماً يخيم على البلاد، وفي طريقه لأن يتحول الى بنية اجتماعية كاملة تتراكم طبقاتها في الوعي الجمعي.وحين يطول الظلم ويتمكن الفساد، تتعثر النهضة لأن الروح الوطنية تصاب بالإرهاق، وهو ذلك الإنهاك الذي يصيب المجتمع عندما تختطف قواعد العدالة، وتنهار قيم التضامن، وتصبح الدولة جهاز بلا روح.

ما يواجه السودانيين ليس فقط الحرب التي تهز أطراف البلاد، بل البنية العميقة للمجتمع التي تتعرض لتشققات خطيرة. مع كل يوم يمر، يتزايد خطر تفكك الكيان الجمعي، وهو ذلك الانهيار البطيء في الروابط التي تشد الناس إلى وطن واحد، ومصير واحد، وذاكرة مشتركة.

وفي ظل هذا الاضطراب، وانشغال الناس بالحرب وأهوالها، تعمل مجموعات نافذة على نخر مؤسسات الدولة في العظم. إنها عملية تمكين جديدة، ولكنها هذه المرة لا تستند إلى أيديولوجيا أو مشروع سياسي، بل إلى فكرة “الغنيمة”، حيث يعاد توزيع المال العام والنفوذ وفق المصالح الشخصية.

وفي العاصمة الإدارية “بورتسودان”، تتبدى هذه الصورة بأوضح تجلياتها.

ملايين الدولارات أُنفقت على صيانة وتأهيل مبان حكومية خارج إطار قانون الشراء والتعاقد؛ لم تُطرح عطاءات كما يقتضي القانون، بل مُنحت الامتيازات لشركات بعينها عبر طرق خاصة، فالمؤسسات هنا لا تُدار وفق القانون، بل وفق شبكات النفوذ التي تعمل في الظل.

الأمر لا يتوقف عند المباني. معظم المشتريات الحكومية تنفذ عبر أفراد ووسطاء وسماسرة، حيث تصبح العمولات جزء من “العرف غير المكتوب” الذي يحكم حركة المال العام.

ذات مرة، احتاجت الدولة إلى شراء معدات طبية، فتقدمت إحدى الشركات بعرض بقيمة ٧٠٠ ألف دولار، لكن تم استبعادها لصالح شركة أخرى باعت الأجهزة ذاتها بقيمة مليون دولار.

وبالتوازي مع التجاوزات المالية، تجري عملية إحلال وإبدال ناعمة داخل مؤسسات الدولة. إقالات تتم بلا معايير مهنية، وتعيينات تصنع على مقاس الولاء الشخصي. على سبيل المثال، تمت إقالة الأمين العام للمجلس الأعلى للسكان واستبدالها بزوجة أحد كبار الموظفين في مشهد يكشف انتقال الدولة من منظومة الخدمة العامة إلى نظام (الزبائنية)، حيث تعاد هندسة الجهاز الإداري وفقاً لشبكات المصالح لا للكفاءة.

إن أخطر ما يواجه السودان اليوم ليس الحرب وحدها، بل هذا التآكل الهادئ في عظام الدولة. فالبلاد قد تتجاوز المعركة العسكرية، لكنها قد تجد نفسها أمام حرب أخرى أكثر عمقاً،حرب على معنى الدولة نفسها، على قيمها، على الثقة العامة التي هي أساس العقد الاجتماعي.

فإذا استمر هذا النخر، فإن الكيان السوداني سيصبح معرضاً للتشظي، لأن الدول لا تسقط بنيران المدافع فقط، بل قد تنهار بصمت عندما تختطف مؤسساتها من الداخل.

نواصل

محبتي واحترامي

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole