*السودانيون العالقون في إثيوبيا ، مأساة إنسانية بين مطرقة الحرب وسندان الغرامات ✍️ د. الباقر عبد القيوم علي*

الحرب كانت زلزالاً إنسانياً دفع بملايين السودانيين إلى المنافي والشتات ، هرباً من القتل والإغتصاب ، والجوع ، ومن بين هؤلاء آلاف السودانيين الذين لجأوا إلى الجارة إثيوبيا ، التي جمعتنا بها الجغرافيا ، والتاريخ ، والمصير المشترك ، كنا نتقاسم معهم هموم شعبهم ، نحمل عنهم ثقل الأزمات كما لو كانت أزماتنا ، فتحنا لهم قلوبنا قبل بيوتنا ، عبروا الحدود إلينا ، فآويناهم حين ضاقت بهم الأرض ، ولم نسألهم عن تأشيرة أو جواز ، لأننا كنا نراهم إخوة لنا في وطن واحد ، صنعنا لهم فرص العمل ، وشاركناهم اللقمة والأمان ، لكن المفارقة المؤلمة أن يقابلوا ذلك اليوم بقسوة الإجراءات الخانقة ، والغرامات التعجيزية التي لا تطاق ، وبالحصار الإداري الذي لا يراعي الإنسانية ولا يعبأ بالظروف ، وكأن الذاكرة قد مُسحت ، وكأن المعروف لا وزن له عند الشدائد .

ما يعيشه السودانيون اليوم في إثيوبيا ، لم يعد لجوءاً مؤقتاً ، وقد تحول بقدرة قادر إلى مأساة مركبة ، عنوانها العجز ، والغرامات ، وانسداد الأفق .

السودانيون دخلوا إلى إثيوبيا بصورة نظامية بجوازات سفر وتأشيرات قانونية ، فلم يخالفوا القوانين ، ولم يتسللوا الحدود كما كان يفعل أبناء الشعب الإثيوبي ، ، إلا أن الواقع تغير سريعاً ، وتحول وجودهم القانوني إلى عبء ثقيل لا يستطيعون تحمله .

تلزم السلطات الإثيوبية السودانيين حالياً بتجديد التأشيرة بمبلغ 100 دولار شهرياً عن كل جواز سفر ، وقبل الأول من فبراير 2024م كانت الغرامة ثلاثة دولارات عن كل يوم إقامة بدون تأشيرة سارية ، ثم جاء قرار إعفاء السودانيين من تجديد التأشيرة خلال الفترة من 1 فبراير وحتى 30 سبتمبر 2024م ، على أن يتم سداد 100 دولار لكل جواز للحصول على تأشيرة مغادرة ، في حالة الرغبة في الخروج من البلاد .

غير أن هذا الإعفاء لم يدم طويلاً ، فمنذ الأول من أكتوبر 2024م وحتى اليوم ، أعيد العمل بنظام تجديد التأشيرة ، وفرضت غرامة قاسية قدرها 10 دولارات عن كل يوم تأخير عن كل جواز سفر ، وهنا وقعت الكارثة .

آلاف السودانيين ، بلا عمل ولا دخل، وقد أنهكتهم الغربة وإستنزفتهم كلفة المعيشة ، عجزوا عن دفع رسوم التجديد. فتراكمت عليهم الغرامات يوماً بعد يوم ، حتى وصلت إلى آلاف الدولارات للجواز الواحد ، وبهذا تحول السودانيون إلى أسرى للإجراءات لا يستطيعون البقاء لعدم القدرة على السداد ، ولا يستطيعون المغادرة لأن تأشيرة الخروج نفسها مشروطة بدفع الغرامات المتراكمة .

هكذا وجدوا أنفسهم عالقين في منتصف الطريق ، بين مطرقة الظروف الإنسانية القاسية ، وسندان الإجراءات الإدارية الصارمة ، لا مصدر رزق ، ولا دعم ، ولا أفق واضح للحل .

المفارقة المؤلمة أن السودان إستقبل ملايين الإثيوبيين دون تأشيرة ، ودون جوازات سفر ، وعاملهم كجزء أصيل من المجتمع السوداني ، يتشاركون الخبز والماء والأرض ، لم يفرض عليهم رسم ، ولم يسجل عليهم غرامة، ولم يُعاملوا كغرباء ، واليوم يُعامل السوداني في إثيوبيا وكأنه عبء عليهم ، رغم أنه لاجئ حرب ، إلا أن دخوله كان بصورة نظامية ، ويدفع جميع نفقات حياته من جيبه الخاص ، والآن يرجو فقط من الحكومة الإثيوبية إعفائه من الغرامات والسماح له بالمغادرة .

لقد حاولت الجالية السودانية هنالك بالتنسيق مع السفارة السودانية في أديس أبابا الوصول إلى حلول ، وبذلت جهوداً كبيرة ، لكن المساعي لم تُكلل بالنجاح ، وبقيت الوعود حبراً على ورق ، بينما تتفاقم المعاناة يوماً بعد يوم .

من هنا نرفع نداءً عاجلاً إلى دولة رئيس الوزراء الدكتور كامل إدريس ، للتدخل الفوري والعاجل لإنهاء مأساة السودانيين العالقين في إثيوبيا ، فهؤلاء المواطنون يا سعادة دولة رئيس الوزراء لا يطلبون امتيازات ولا مال … فقط يريدون العودة إلى وطنهم المكلوم ، مهما كانت الجراح ، ومهما كانت الظروف .

إنهم أناس أفقدتهم الحرب كل شيء بيوتهم ، وأعمالهم ، ومدخراتهم ، وأمنهم ، وأمانهم ، خرجوا من وطنهم مكرهين ، وأخطأوا التقدير حين حسبوا أن إثيوبيا دولة جارة، ستكون الأقرب إليهم والأرحم بحالهم ، إلا أنها أبعد ما تكون عن معاناتهم ، فهم اليوم لا يملكون ما يسدون به كلفة البقاء ، ولا ما يمكنهم العودة إلى وطنهم ، فوجدوا أنفسهم عالقين في فراغ قاس بلا خيارات ، و لا أمل ، فماذا يفعلون؟ ، وإلى من يلجأون؟ ، ومن يسمع أنينهم ؟ .

إنها قضية إنسانية قبل أن تكون إجرائية ، وكرامة وطن قبل أن تكون مسألة تأشيرات ، والتاريخ لا ينسى من وقف مع شعبه في محنته ، وكما لا يرحم الصمت حين يكون الصمت خذلاناً .

والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole