*نحن راجعين المعيلق*
في طريق العودة رأيتُ قطار الجزيرة الأخضر يخب مُسرعاً تحت سحابة داكنة، كأنها تطارده، تذكرت أول مرة اعتليت ظهره وفي يدي كتاب، بدا مثل قطار غار دي ليون وهو يطوي المسافات بين باريس وجنيفا، بدت لي محطة المعيلق أشبه بمحطة حيدر باشا التي تقع في النطاق الآسيوي من إسطنبول، تذكرت أول رحلة لي إبان الحقبة البشيرية، وقد (دور حديدو) بالفعل في موعده المضروب من محطة بحري، تحركت الحجرات تباعًا، لاح لنا القصر الجمهوري، ذلك العرين الرحب للسُلطة، أسير الحرب الأكثر تعاسة في يد الجنجويد، لم يعد يملك وصفة للحصول على الخبز والسكر والحليب والأمن، دعك من أن يخطط للمستقبل في بلد يموج بالكوارث ويتحفز لمجاعة ليست أقل فداحة من مجاعة سنة ستة، في ذلك الوقت انشغل الخليفة عبد الله التعايشي بالحرب وأهمل الزراعة والتجارة، عطفاً على هلاك الماشية والمرض والهجرة، مثل ما يحدث حاليًا تماماً، عبرنا جسر الحرية، علّق أحدهم قميصه على الجسر، أظنه عامل حكومي لم يفهم المفارقة العميقة لجسر حرية يطل على السجانة! فوق مدخل حجرة القطار الأولى كانت تنتصب شاشة بلازما أنيقة، يغني منها محمد النصري بصوته المحزون ” طوّل وفجأة بان ذكّرني أيامنا الزمان يا حليلو ..” فجأة رأيتها، هى نفسها تلك التي رافقتها لسنوات طويلة، أعرفها من ندبة في القلب، بدت حزينة وساهية وكبيرة، أكبر من كل الهموم حولنا، اقتربت منها بحذر، قصدت جرح ذاكرتها: “بالله شوفي كمية الحنية في يا حليلو دي؟” ابتسمت بحفاوة، دون أن ترفع رأسها. كم وقت يلزمني لصب (الياحليلات) على كأس الفجائع حولنا، على الخرطوم، على الجزيرة والمعيلق تحديدًا، على دارفور والجامعات والمصانع المُدمرة، والجدان العتيقة المُدمّاة، أم على نزق الصبا، وزفة المولد ورمضان أحلى في السودان، طلة الحُجاج أمام بيوتهم المزينة بعبارات على شاكلة “حجا مبروراً وسعياً مشكورا” كل شيء تتذكره تنسحب فوقه عنوة يا حليلو تلك. نظرت إلى السماء مجدداً فلم أرَ طيور الجنة والرهو والسحب التي تفك أزرارها لتسقينا، كل شيء بعيد، الاتصالات مقطوعة الأن عن الأهل، والرسائل لا تصل أبدا، فمن يطمأننا عليهم، ومتى القلب في الخفقان إطمأن؟ سمعت صوت النصري” دق الرعد،، طبلو المخيف،، قامت تلاقيح الخريف،، ختتنا في حدوة حصان، ياحليلو ..” كمية رهيبة من الأسى، رأيت المعزولين بين قنطرتين، العابرون في زمن عابر، شارع الموت نفسه، والأرواح العزيزة التي صعدت منه إلى السماء، وكيف كان رحيماً مقارنة بهجمات وحوش الدعم اليوم، تذكرت الأمهات المفجوعات، ودعوت لهن، لحياة أقل فداحة، لأجل الإنسان المنكوب، لأجل مرضى السرطان والفشل الكلوي الذين فقدوا حقهم في العلاج، هربوا بأوجاعهم وماتوا في الطريق، للهاربين من ذكائهم، على وصف المجذوب، فجأة وقفت شامخة، كنخل الحجاز، هى نفسها تلك الجميلة المُسافرة، بسمتها وقوامها المنخرط في الدلال، قالت بصوت حنون: لم أنساك بالطبع. مسحت عن قلبها صدى لحن قديم، ضمن عشرات الأغاني التي أبدع فيها حمد الريح، علقت تلك الأغنية في ذاكرتي وروحها، عرِفتني حين نبهتني إلى شريط الكاست وكيف كنت أقوم باسترجاعها بطريقة يدوية، عدة مرات في اليوم، في قريتنا هنالك بالجزيرة غرب السكة حديد، المحاصرة اليوم، في منتصف سنوات الحرمان، لا تملك حيلة للاستماع للأغاني التي كنا نحبها، إلا من خلال ما تجود به الإذاعة أو أشرطة الكاست، أو حفلات الزفاف الموسمية بالطبع، ومن بينها حفل زواج يؤرخ به في الأرجاء هنالك، صحوتُ مفزوعاً من نومي المجذوذ، صحى القلب أولاً تحت وقع ضربات المندولين، ماندولين تريفيلا، وتسخينة الساوند ” ون تو ثري “، وقد تناهى إلى سمعي صوت اللمين الضو، المُبهج الطروب، غني فبرزت سنه الذهبية، ثمة ما يشتبه على الذاكرة بما يسمونها الحنجرة الذهبية، وتلك السِن، سيغني أيضاً حتى الفجر، وينتهي إلى لحن الختام وتختفي العروس والمكان والدنيا ” نحن راجعين في المغيرب، نحن راجعين المعيلق .. المعيلق في المغيرب.. للديار ما حد يشوفنا لا نشوفه ..”.
عزمي عبد الرازق