أبيض
تاج السر الملك
لم تكن (إنصاف جكسا)، لاعبة كرة قدم، ولم تكن تمت بالقرابة، للاعب الكرة الأشهر، نصر الدين عباس جكسا، ولكن شهرتها توازت وشهرته، اشتهرت بجرأتها، وجمالها وتمردها وتفردها، بقيادتها سيارة حمراء، وبارتداءها لجكسا في خط ستة!
للخرطوم ذاكرة، تفرقت بين القبائل، بعضها في شفافية الماء، وبعضها معتكر، وللخرطوم تحولات وتأولات، لها مزاجاتها، وطربها وكربها، رونقها، وانفلاتها وعصفها وسكونها. لها عاشقيها ومبغضيها، هي السودان بكل تناقضاته، لين عريكته، وجرثومة عنفه، وتاريخه السريالي، ولا اعني ام درمان، أو اي مدينة في مقام السودان، فالخرطوم المدينة، هي السودان، بهمومها وديومها، وديمومتها، وهي جنة رضوان وإدريس في زمانه، تحتفي بأناس، وتلتف مثل القضاء، حول رقاب آخرين، تعج بالشرطة والمقاهي، لا (الودك) الجيد والظلال، تتلون بالمكتبات والأغلفة المصورة، والتشكيل، وعصارة فكر الغابة والصحراء.
فوق سطح (صحاري)، كان فريق (البلوستارز) ، يحوم حول ( ملايكا)، لمريام ماكيبا، و (ڤيكي بلين)، نزلت من على خشبة المسرح القومي، مستاءة، وقالت بان السودانيون يتحدثون، بالصوت العالي اثناء أداءها، وكان هنالك رجال، يبيعون البارد، فينبهون الجمهور بقدومهم، بالطرق علي أعناق زجاج ( الفانتا)، بمفتاح المياه الغازية، وينادون من ياس، برد برد برد ياحران، وباعة التسالي قزقزقزقزقزقز.
لم تعد ڤيكي للغناء في السودان مرة اخري، واتت ( الست) عوضاً عنها، وغنت (هذه ليلتي)، وفهد بلان غنى، من فوق ضهر الحصان نتفسح سوا، وامتنع (الصلحي) عن الحديث في شأن فيكي بلين، عاد لبيت الجاك، وقدم لاعب التنس العملاق (عادل طوبيا)، في حلقة خاصة، بالتمرد، فانقدحت شرارة ( الافرو)، من تلك الليلة، واندلعت نار الرفض، الخنفسة، الهيبيز؟ وعشق الناس اغنية
Without you
وحفظوها.
اعقبتها اغنية
He
فسارت بها الركبان، ثم توالى الامر، فقدم ادمون منير ، ديميس روسوس، وڤان ماكوي، وعرف الناس مقطوعته
Do the hustle
فسموها ( جرو هسة)… زمن!
ولكن من هو ابيض؟
أبيض، رجل سوداني، (من أولاد الخرطوم غرب)،وبعكس لقبه، فقد كان اسوداً، لامع السواد، فكأنه قادم من قبيلة الزولو، بعيون بيضاء كبيرة، وشارب كث، وأجفان متهدلة، تنسدل على عيون فيها سلام مقيم. تراه ببنطال (البلو جينز)، سائراً في (الجمهورية)، فكأنه (شافت) أو (الفريد ويليامسون)، فتكون الرؤية بمثابة الفتح الحضاري، فالناس كانوا قد سمعوا بالجينز، والمارتديلا، قبل أن يلبسوا أو يتذوقوا، وقد يكون السيد أبيض كذلك، اول (دي جي) في السودان، فقد كان، يلعب الاسطوانات، في كافتيريا النيل الازرق، وهي سرداب يختفي، تحت سينما النيل الازرق، تسمع صوت (البيز)، يعبث بمشاعرك الرخوة، آتياً من اللاحيث، وصوت (كات ستيفنز)، قبل أن يغير إسمه ليوسف إسلام، بعد اعتناقه للدين الاسلامي، يأتيك بكمال وضوحه. هذا القبو، شهد ميلاد كلمة (ديسكوتيك) حين وصولها لبلاد السودان، فتمددت الكلمة، تدغدغ عواطف محبي الموسيقى الغربية، وجلهم من (أولاد الخرطوم)، وقال الناس أن اسمه الحقيقي، ميرغني اسماعيل، وأن اخوه الاكبر عزيز ابيض، لاعب سلة شهير، في المانيا، واشيع باسطورة غير صحيحة، أن ابنة ملكة الديسكو المتوجة، (دونا سمر) الكبرى، هي إبنته، ولكن تأكد اداءه لدور صغير، في الفلم الامريكي، كوخ العم توم.
أكتاف ابيض مستقيمة، لاتشبه اكتاف السوانيين المتهدله، يسهر ليلته في ديسكوتيك الكافتيريا، والتي هي ليست، كازينو النيل الازرق، وفي النهار، كان يعمل في ستيريو الأضواء، يفرغ الاسطوانات لشرائط الكاسيت، بحسب أمزجة الزبائن. وهنا تعرفت على ابيض.
كان محل الاضواء، في عمارة (مرهج)، مكاني الأثير للتسكع، اهرب اليه، وانا طالب في القديمة، في ايام الاضرابات، والتي كانت تندلع بشكل راتب، ضد نظام النميري، اتسلى بالنظر، الي اغلفة الاسطوانات، ديانا ومارڤن، تمتيشنز، كيرتس ميفيلد، ووندر، باري وايت، ايزاك هيز، ديميس روسوس بلحيته الضخمة، الجاكسون فايف، فليت وودماك، ليد زيبلين، ديب بيربل.
استمع الي (المزازيك)، تخرج من منافذ سماعات ضخمة، مخبأة في الأركان بذكاء تصاميمي مدهش، والمكان صغير وانيق، تم تصميمه بذوق عال، واحة رطبة في سموم الخرطوم، تدخل فتجد (ابيض) خلف حاجز زجاجي، موسدا رأسه، ذراعيه المتشابكين، ما ان يراني حتي يهب من رقدته، وبرغم فارق السن، إلا انه كان يحدثني، وكأنني صديق عمره…
اسمع الصقع ده يا ابو السرة
Barry White Standing in the shadows of love
ثم يطلق ابتسامة بيضاء، باسنان كاملة العداد….
ويضيف بلا مبالاة:
انا ذاتي والله مصقوع الليلة، ببابور مبالغة، بس بوب مارلي في شبابه….
فأضحك
ثم ابدأ في جمع اغلفة الاسطوانات، التي اود انتقاء أغنيات فيها، لأضمنها شريطي، سانتانا، بلاك ماجيك وومان
بيلي كوبهام كروس ويندز
بيل ويذرس الالبوم كله
ايدي كيندريكس….
نحشر كل ذلك حشرا، في شريط كنا نسميه (سيليكشن)، وكنت تدفع قيمة (اتنين جنيه ونصف) للشريط، وكان ذلك مبلغًا ضخمًا في زمانه.ثم تلاشى كل شئ، كأن لم يكن
وسمعت بوفاة ابيض، في يوم الوقوف على جبل عرفات، صائماً، مع زوجته الانجليزية وابنته.
ونظرت إلى الخرطوم التي مات فيها، شارع الجمهورية، وجدر الرصاص وجهها السمح، وسرح في طرقاتها الامنة رعاع الجنجويد.
ولم يتبق فيها سوى نوع من التمتم الماسخ، وحطام العمران الذي كان يقف في هيبة وكبرياء ،
واقفرت طرقاتها، من الذين احبوها، ونشأوا في احضانها.
كثير ممن يتضهب مناكبها، ولكنهم لا يعرفونها، ولكن للغزاة يوم يموتون فيه كالذباب.
تاج السر الملك