من كان مخلصاً صادقاً في إنقاذ الشعب السوداني من ويلات الانتهاكات فيجب أن يكون ساعياً في تجفيف منبعها! أي إيقاف الحرب، ثم الانخراط في مشروع إعادة بناء المنظومة الأمنية والعسكرية بحيث تكون حامية للشعب السوداني وحارسة لحريته وكرامته بدلاً من أن تكون متخصصة في انتهاك حقوقه كما هو حالها الآن وبلا استثناء: جيش، دعم سريع، شرطة، جهاز أمن! كلهم انتهكوا حقوق الشعب السوداني ولو كانت الانتهاكات تستوجب الاستئصال الكامل فيجب استئصال كل من الجيش والدعم السريع والشرطة وجهاز الأمن! وليس الدعم السريع وحده! ولكن لأن الاستئصال بمعنى الإفناء غير ممكن ولا مطلوب، فإن المطلوب هو استئصال المناهج الفاسدة وتغيير شفرة تشغيل هذه الأجهزة وإعادة بنائها كمؤسسات وطنية في خدمة الوطن والمواطن.
من أبلغ نماذج الغوغائية والغباء المركب خطاب المعتوهين الذي يعارضون السلام ويستخدمون اسطوانة الانتهاكات في تأييد استمرار الحرب على اساس أن الدعم السريع بعد كل ما ارتكبه من انتهاكات لا يجوز مجرد الحديث عن حل تفاوضي معه لأنه يجب أن يختفي من الوجود تماماً عقاباً له على انتهاكاته!
أولاً: منبع الانتهاكات هو الحرب وليس مجرد وجود الدعم السريع، لأن الدعم السريع موجود في الخرطوم منذ عام 2013 بآلاف الجنود وكامل عدته وعتاده ولم يطرد الناس من منازلهم وكانت انتهاكاته زمن السلم تشبه ما اعتدنا عليه من كل قواتنا النظامية من جيش وشرطة وأمن، أي محاولة لتضليل الناس وإيهامهم بأن سبب معاناتهم ليس واقع الحرب هي محاولة لكسر عنق الحقيقة.
ثانياً: فرضية أن شرط وقف الانتهاكات هو القضاء التام على الدعم السريع كان يمكن قبولها لو كان الجيش قادراً على ذلك ولو كان الجيش متفوقاً على الدعم السريع أخلاقياً ولو كان سجله خالياً من الانتهاكات!
إن الواقع ليس مفتوحاً على انتصار الجيش لأن هزائمه المتتالية ماثلة أمام الجميع وفي مقدمتهم البلابسة الذين يصرخون الآن ويطالبون بتجاوز الجيش واستبداله بالمقاومة الشعبية، بل الواقع في حالة إطالة أمد الحرب مفتوح ليس على القضاء على الدعم السريع بل على انتقال الحرب إلى الولايات الآمنة الأمر الذي يعني شيئاً واحداً هو أن يعاني سكان ولايات نهر النيل والشمالية والجزيرة وكسلا والقضارف وبورسودان من ذات التشرد والجحيم والانتهاكات الفظيعة التي عاناها سكان الخرطوم ودارفور! وفقدان الأمان الذي هم فيه الآن! لأن سبب أمانهم ليس هو حماية الجيش لهم، بل سبب أمانهم هو عدم وصول الحرب إلى مناطقهم! فإذا وصلت الحرب إليهم سيهرب الجيش أو يتخندق في ثكناته ولن يقدم لهم شيئاً سوى قصف الطيران والمدفعية تماماً كما حدث في الخرطوم ودارفور، إذ لا منطق في افتراض أن الجيش الذي فشل في حماية المواطنين في عاصمة البلاد سوف ينجح في ذلك في الولايات الأخرى، وبالتالي فإن دعاة استمرار الحرب عليهم أن يبحثوا لذلك عن أي مبرر آخر وأن يكفوا عن العبط والهبل والغباء والاستغباء ممثلاً في الزعم بأنهم يرغبون في استمرار الحرب لوقف الانتهاكات ومعاقبة مرتكبيها! لأن استمرار الحرب في واقعنا معناه استمرار مسلسل الانتهاكات! ونقلها إلى الولايات الآمنة! كما أن استمرار الحرب سيفتح كل يوم باباً جديداً على الجحيم: التقسيم وقدوم الإرهابيين وأطماع المتربصين بأراضينا ومواردنا فضلاً عن تفاقم الكوارث الإنسانية.
ثالثاً: لا توجد مسافة أخلاقية تفصل بين الجيش والدعم السريع، تاريخ الانتهاكات في السودان لم يبدأ في 15 أبريل كما يحاول إقناعنا الكيزان والمتواطئون معهم وكثير من المصابين بمتلازمة العبط السياسي!
أبشع صور انتهاكات الجنجويد كانت مع بدايات حرب دارفور عام 2003 وتحت قيادة موسى هلال، حينها كان الجيش قائداً لتلك الانتهاكات ومشاركاً فيها وكان جهاز أمن الكيزان يعاقب كل من فتح فمه ضد تلك الانتهاكات بل كان يعاقب ضحاياها على مجرد الانين من وطأتها! والآن وياللمسخرة والمهزلة يزايد الكيزان علينا في موضوع الانتهاكات ويتحدثون عن حقوق الإنسان من مواقع الأستاذية! إنها متلازمة البجاحة وقوة العين والانعدام التام لأي ذرة من الحياء!
حتى الدعم السريع في أسوأ فترات تاريخه من حيث الانتهاكات في دارفور وعندما كان مجلس الأمن بصدد إصدار قرار إدانة ضده سخر الكيزان حينها وتحديداً عام 2014 كل ما في وسعهم لعرقلة القرار ونجحوا في ذلك بمساعدة الصين واحتفلوا وهللوا وكبروا لأنهم أنقذوا الدعم السريع من إدانة دولية! لأنه في ذلك الحين كان حارساً لمصالحهم وكراسيهم وحامياً لهم من الحركات المسلحة! كم هو مقزز حد الغثيان والاستفراغ عندما يتنمر الكيزان على خصومهم السياسيين بذريعة عدم إدانة انتهاكات الدعم السريع! مع العلم أن القوى الديمقراطية أدانت ببيانات موثقة انتهاكات الدعم السريع ولكن الكيزان يستنكرون إدانة الطرفين! ويرغبون في إدانة طرف واحد فقط!! في حين أن الإدانة واجبة ضد الطرفين (جيش ودعم سريع) من الناحية الموضوعية لاشتراكهما معاً في ترويع الأبرياء بهذه الحرب، حتى جرائم الابادة الجماعية للمساليت في دارفور التي يتحمل مسؤوليتها الدعم السريع في المقام الأول، يجوز فيها إدانة الطرفين لأن الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ضالعة بشكل واضح في إشعال الفتنة بين العرب والمساليت، لا بد من تحقيقات مهنية مستقلة في كل الانتهاكات لكشف الحقائق كاملة لوجه العدالة.
لا سبيل لوقف الانتهاكات سوى إيقاف الحرب وتحقيق السلام المستدام بدفع استحقاقاته وعلى رأسها الإصلاح الأمني والعسكري وصولاً لتكوين جيش مهني قومي واحد، والعدالة الجنائية والعدالة الانتقالية وخروج العسكر من السياسة وبناء الدولة المدنية الديمقراطية.