تقرير : حسن اسحق
يعتبر التأثير النفسي للصراع في السودان على اللاجئين والمجموعات المتضررة قضية بالغة الأهمية تتقاطع مع العدالة الجنائية الدولية والمساءلة، خاصة بعد اندلاع حرب ١٥ أبريل ٢٠٢٣، حيث أثرت تأثيرا مباشرا على الملايين، بينما المهتمون والمدافعون عن حقوق الانسان، دوما يتطرقون إلى فكرة المساءلة والعدالة في هذه الجوانب، لما لها من أهمية محورية في بناء استقرار السودان، ما بعد الحرب، كما أن الضحايا ايضا ينتظرون أن تتحقق هذه المبادئ الإنسانية السامية، لكل من تورط أو اشترك في انتهاك حقوق السودانيين.
غالبًا ما يعاني اللاجئون والنازحون داخليًا من صدمات نفسية شديدة بسبب العنف، وفقدان الأحباء والضغوط الناجمة عن النزوح، وقضايا الصحة العقلية طويلة الأمد، بما في ذلك اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق، والبحث عن آليات لمعالجة هذه الآثار السلبية علـى النازحين واللاجئين السودانيين.
التأثير النفسي للحرب على اللاجئين
في الغالب تعمل العديد من الأجسام الدولية على تقديم مساعدات للمجموعات المتضررة واللاجئين والنازحين داخليا، وقالت المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أولغا سارادو مور في بداية شهر مايو ٢٠٢٤، “إن السودانيين النازحين واللاجئين يعربون عن مخاوف جدية بشأن سلامتهم، وأبلغوا عن ارتفاع العنف الجنسي، إضافة إلى محدودية الدعم القانوني، بحيث يعاني العديد منهم من صدمة شديدة.
ويرى كثيرون، أن الحرب أثرت نفسيا على النازحين داخليا وفي دول الجوار، بحيث إن هذه المجموعات تعاني من صدمات نفسية شديدة بسبب العنف وفقدان الأقرباء والأحباء، والضغوط النفسية والاجتماعية الناجمة عن النزوح واللجوء، وبالتالي يجب التطرق إلى قضايا الصحة العقلية طويلة الأمد التي تساهم في مساعدة اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب والقلق، وعلى منظمة الصحة العالمية أن تلعب دورا في مساعدتهم الخروج من الصدمة الأولى للحرب في أماكن تواجدهم.
زوايا التأثير النفسي
إن انهيار الهياكل الاجتماعية، أدت إلى تآكل أنظمة الدعم الاجتماعي التقليدية، وزيادة العزلة، وانعدام الثقة بين المجتمعات، يقول الكاتب محمد زاهر أبو شمة في ورقة له بعنوان “أسباب الخلاف والآثار النفسية علي المواطن”، إن الاثار النفسية تلعب دورا بارزا في سير قطار الحياة اليومية، اذا كانت إيجابية تؤدي إلى الاستقرار النفسي الذي يقود بدوره إلى الاستقرار الوظيفي الذي يجعل المجتمع يصل إلى مرحلة الرفاهية الاجتماعية، ما يجعل الحياة متفردة وسعيدة. يقول محمد “لا يمكن أن تزول آلام الحرب بمجرّد وقف إطلاق النار أو نهاية العمليات العسكرية، بل تمتدُّ المأساة لسنوات طويلة بعدها، بحيث يصحوا الناس على ما خلّفته الحروب من ندوب عميقة داخل نفوسهم كباراً وصغاراً، وسوف يفتقد المجتمع إحساسه بالأمان والاِستقرار، ويجعله أكثر عرضةً لخطر الجوع، والمرض، والعنف، والتجنيد العسكري القسري، والاِستغلال، والاِعتداء الجنسي، وغيره من الأشياء التي تسهم في هدم هذه المجتمعات”
العواقب الصحية في البلاد
ان استمرار النزاع له عواقب على القطاع الصحي متمثلة في تدمير المستشفيات والعيادات إلى حرمان العديد من الأشخاص من الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية الأساسية، مما أدى إلى تفاقم الأزمات الصحية (الجسدية والعقلية)، والذي له انعكاساته وآثاره وديناميكيته على الأسرة.
إن الضرر النفسي للصراع، والذي يؤدي أحيانًا إلى انفصال الأسر بسبب الظروف، أو وفاة وعجز معيل الأسرة، والبطالة، إلى جانب العنف القائم على النوع الاجتماعي الذي غالبًا ما يشجعه الافتقار إلى أنظمة قانونية قوية رادعة، قد زاد من إجهاد الهياكل الأسرية، مما قد يؤدي إلى تفاقم العنف المنزلي، وعدم الاستقرار.
صورة للاجئين سودانيين
يرفض الناشطون استخدام الحرب النفسية، من قبل المجموعات المسلحة في النزاع، بما في ذلك تكتيكات الإرهاب، والإعدامات العلنية، والتجنيد القسري، ونشر الدعاية، ونشر الخوف، والسيطرة على السكان، لأن له تأثيرا سلبيا نفسيا على الضحايا في الحاضر والمستقبل، وكذلك المجتمع نفسه.
الاضطرابات النفسية للنزاعات المسلحة
يوضح الدكتور أحمد عبدالمنعم، رئيس قسم علم النفس بجامعة الخرطوم، توجد اضطرابات نفسية تحدث أثناء فترة الحروب ونشوب الصراعات المسلحة، تتمثل في الذعر والخوف والقلق، وأن العلامات الرئيسية التي تظهر على الشخص، لا تصنف كونها اضطرابات نفسية، إلا أنها تنذر باضطرابات نفسية منها الشعور، بالإحباط واليأس وعدم القيمة. يضيف أحمد، أن أبرز الاضطرابات النفسية السائدة في هذه الحالات، تتمثل في اضطرابات ما بعد الصدمة، ويحدث بشكل أساسي بعد تعرض الفرد لصدمة حياتية كبيرة، مثل فقدان الأحبة، أو سماع أصوات عالية ومخيفة، أو فقدان ممتلكاته ووظيفته. كما تظهر على الفرد علامات الذعر والشعور بالإحباط والخوف، والخوف من المجهول وظهور علامات “المزاج الاكتئابي” منها عدم الرغبة في ممارسة الأنشطة اليومية، والاضطرابات المصاحبة للنزاعات المسلحة، والحروب قد تكون عارضة تزول بزوال الأحداث المفاجئة والصادمة، وقد تكون مستمرة في حال غياب الرعاية اللازمة والمتابعة، وتتحول فيما بعد إلى اضطرابات نفسية معقدة في علاجها.
الاستجابة الإنسانية الدولية
أضاف تقرير اللجنة الدائمة المشتركة بين الوكالات ’’ Inter-agency Standing Committee ‘‘ المختص بشؤون دعم المتأثرين بالنزاعات المسلحة أيضا، تقدّم بدليل تنسيق الصحة النفسية، والدعم النفسي الاجتماعي، في ورقة عام ٢٠٢٢، بجنيف، إضافة لذلك تعمل علي زيادة قدرتها علي الصعيد الوطني عن طريق نشر خبراء الصحة النفسية، والدعم النفسي الاجتماعي للمتأثرين بالنزاعات المسلحة. ومع ذلك، فيجب التطرق إلى التحديات التي تواجه عمل المنظمات في العديد من الحالات، منها، صعوبات الوصول إلى المجموعات المتضررة وخوفهم من العار الاجتماعي ما بعد الصدمات.
المساءلة والعدالة
يطالب ناشطون سودانيون ا بالمساءلة والعدالة كجزء من عملية مساعدة الضحايا على التعافي، وفي ورقة للباحث فهيل جبار جلبي، بعنوان “الإجراءات الأمنية والإنسانية لبناء السلام في مرحلة ما بعد النزاع” أكد أن بناء السلام يقتضي دعوة جميع الأطراف ذات العلاقة من الجهات السياسية والمنظمات والنشطاء وممثلي الجماعات العرقية داخل الدولة، التي تشجع العمل على مواجهة التحديات من خلال مفهوم “التغيير يأتي من القاعدة للقمة”.
وفي هذا الإطار، تطالب تسنيم يعقوب الناشطة الاجتماعية في إحدى معسكرات اللاجئين في دولة تشاد، المنظمات الدولية الإقليمية أن تتعاون مع الحكومة السودانية في سبيل تحقيق العدالة والمساءلة لضحايا حرب السودان، وتقول في سرد حديثها “إن عشرات الآلاف من السودانيين يتمنون أن يروا من ارتكاب المجازر في إقليم دارفور يمثلون أمام العدالة الدولية. تؤكد تسنيم، أنه يجب أن تكون العدالة والمساءلة هي محور كل سوداني يريد مستقبل مشرق لبلده ما بعد الحرب، كما أشارت سابقا، الى أن تقديم مرتكبي الجرائم للمحاكم الدولية يعتبر جزءا من العلاج النفسي والاجتماعي بالنسبة للاجئين، والنازحين السودانيين، ويجب توفير كل الآليات لعلاج ضحايا النزاع، عبر المؤسسات ومنظمات مجتمع المدني المستقلة.
أهمية القانون الدولي الإنساني
القانون الدولي الإنساني، هو مجموعة من القواعد التي ترمي إلى الحد من آثار النزاعات المسلحة لدوافع إنسانية، كما جاء على موقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، يهدف إلى حماية الأشخاص الذين لا يشتركون مباشرة أو بشكل فعال في الأعمال العدائية، أو الذين كفوا عن المشاركة فيها مباشرة أو بشكل فعال، وكذلك يفرض قيودا على وسائل الحرب وأساليبها. في ذات الوقت، يعرف القانون الدولي الإنساني أيضا “بقانون الحرب أو قانون النزاعات المسلحة”.
بينما قالت منظمة “هيومان رايتس ووتش” في تقرير مفصل لها في شهر مايو الماضي من هذا العام، بعنوان ’”السودان : تطهير عرقي في غرب السودان”، إن هجمات قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها في الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، قتلت آلاف الاشخاص، وخلفت مئات الآلف من اللاجئين من أبريل إلى نوفمبر ٢٠٢٣، ارتكبت خلالها جرائم واسعة النطاق في سياق حملة تطهير عرقي ضد إثنية “المساليت” وغيرهم من السكان غير العرب في المدينة، وما حولها.
أما منظمة العفو الدولية، في ما يتعلق بالحرب في السودان، تقول، لقد أودى النزاع الداخلي بحياة ما يزيد ١٤ ألف شخص، وهجّر ما يفوق ١٠ ملايين نسمة، ويواجه الإنسان في السودان انتهاكات مستشرية لحقوق الانسان والقانون الانساني، ما أدى إلى وقوع عدد هائل من الإصابات في صفوف المدنيين، وعنف قائم على النوع الاجتماعي، وحجب الانترنت، ما يجعل من المستحيل تقديم المساعدات الإنسانية إلى ملايين المدنيين الذين يحاولون البقاء على قيد الحياة بدون طعام أو ماء.
قانون روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية
يوضح نظام روما الأساسي في المحكمة الجنائية الدولية، المادة (٥)، الجرائم التي تدخل في اختصاص المحكمة، يقتصر اختصاص المحكمة على أشد الجرائم خطورة موضع اهتمام المجتمع الدولي بأسره، وللمحكمة بموجب هذا النظام الأساسي اختصاص النظر في الجرائم التالية، أولا، جرائم الابادة الجماعية، وثانيا، الجرائم ضد الإنسانية، وثالثا، جرائم الحرب، ورابعا، جرائم العدوان.
بينما تمارس المحكمة الاختصاص على جريمة العدوان متى اعتمد الحكم بهذا الشأن، وفقاً للمادتين ١٢١ و ١٢٣ يعرف جريمة العدوان، ويضع الشروط التي بموجبها تمارس المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بهذه الجريمة، ويجب أن يكون هذا الحكم متسقاً مع الأحكام ذات الصلة بميثاق الأمم المتحدة.
وفي ذات الوقت، تعرف المادة (٧) الجرائم ضد الإنسانية، حسب نظام روما، على أنه “يشكل أي فعل من الأفعال التالية، جريمة ضد الإنسانية، متى ما ارتكب في إطار هجوم واسع النطاق أو ممنهج موجه ضد أية مجموعة من السكان المدنيين، وتضم الجرائم، القتل العمد، والإبادة، والاسترقاق، إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان، أو السجن، أو الاغتصاب والاستعباد الجنسي أو الاكراه علي البغاء، أو الحمل القسري، أو الحرمان الشديد علي أي نحو آخر من الحرية البدنية”
اتفاقية جنيف وحماية المدنيين
في هذا الصدد يقول المدافع عن حقوق الإنسان إدريس عبدالله هارون، إن اتفاقية جنيف بشأن حماية الأشخاص المدنيين – في وقت الحرب بتاريخ الثاني عشر من أغسطس ١٩٤٩، – الذين ليس لهم علاقة بالأعمال العسكرية، وكذلك أفراد الأطراف المسلحة التي ألقت أسلحتها أرضا واستسلمت، والأفراد الذين ليس لهم القدرة على القتال، يجب أن يعاملوا معاملة إنسانية، دون تمييز علي أساس العنصر أو اللون أو الدين أو المعتقد أو الجنس.
يوضح إدريس، أن المادة (٣) بشأن اتفاقية جنيف المتعلقة بحماية المدنيين، تحظر، الاعتداء على الحياة والسلامة البدنية، مثل، القتل بجميع اشكاله، والتشويه، والمعاملة القاسية، والتعذيب، وأخذ الرهائن، والاعتداء على الكرامة الشخصية، وحظر إصدار أحكام وتنفيذ العقوبات دون إجراء محاكمة سابقة. يضيف إدريس أن المتورطين والمشاركين في هذه الانتهاكات والجرائم يجب أن يمثلوا أمام المحاكم المحلية والإقليمية والدولية، مشيرا إلى أن كل هذه الجرائم تقود إلى المساءلة والمحاسبة الدولية.
التحديات أمام ملاحقة الجناة
تقول الناشطة واللاجئة السودانية فاطمة أحمد إسحاق من الأراضي التشادية، إن تحقيق العدالة والمساءلة في السودان تقف أمامه العديد من العقبات، أبرزها القيادات المتورطة في قتل الأبرياء التي ما زالت تتحرك بحرية من دون إصدار مجلس الأمن الدولي والمحكمة الجنائية أوامر القبض على مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية في ولاية غرب دارفور، إضافة إلى الأحداث الدموية الأخيرة في الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور، من قبل قوات الدعم السريع التي تستهدف استهدافا ممنهجا على المدنيين ومعسكرات النازحين.
لاجئات سودانيات
تضيف فاطمة، إن عدم الاستقرار السياسي وإهمال تعاون الحكومة المركزية في هذا الملف، قد يعقد مسألة تحقيق العدالة والمساءلة، ويثير مخاوفا من أن يفلت مرتكبي هذه الجرائم من العقبات، ما يشجع على استمرار القتل، مشيدة بخطوة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان في شهر يونيو المنصرم، بعد إطلاقه حملة تدعو لتقديم أي معلومات تؤكد التقارير الواردة عن ارتكاب جرائم في إقليم دارفور بمدينة الفاشر غرب السودان. تعتقد فاطمة في نفس الوقت أنها خطوة في الاتجاه الصحيح، ولفت أنظار المجتمع الدولي بشأن الجرائم ضد الإنسانية في السودان. وأشارت إلى أهمية قرار مجلس الامن التابع للامم المتحدة رقم ٢٧٣٦، الصادر في يونيو ٢٠٢٤، الذي طالب فيه قوات الدعم السريع بوقف حصارها على الفاشر “عاصمة ولاية شمال دارفور” ودعا إلى خفض التصعيد في الفاشر، ومحيطها، وسحب جميع المقاتلين الذين يهددون سلامة وأمن المدنيين، والتزام جميع أطراف النزاع بالقانون الدولي الإنساني، غير أن قوات الدعم السريع لم تستجب النداء، وما زالت تحاول اقتحام الفاشر بقوة السلاح، حث كثفت هجماتها على المدينة في شهر أغسطس ٢٠٢٤.
ختاما .. التعافي المبكر مفهوم إشكالي
إن مفهوم التعافي المبكر ما بعد النزاع، لا يزال موضع جدل داخل الدوائر الإنسانية، وكذلك بين المنظمات غير الحكومية والمانحين، إ ضافة إلى غياب معياري مرجعي للتعافي ما بعد النزاع، بخلاف ما هو قائم معتمد في حالة ما بعد الكوارث، وكذلك وجود تباين منظور المعنيين للتعافي المبكر واشتراطاتهم الخاصة، هذا ما يضع المفهوم في حالة سيولة تتأثر بالاعتبارات السياسية، والإنسانية لكل مرحلة من مراحل الصراع، بحسب مركز عمران للدراسات الاستراتيجية في ورقة بحثية له بعنوان “فرص … ومخاطر كامنة”