إذا كانت المباني الجميلة تتعرض لعوامل التعرية أو لآلة الحرب التدميرية فتتحول إلى أطلالٍ لا حياة فيها، فإن المعاني النبيلة أيضاً تتعرض لعوامل تعرية وتدمير من نوعٍ آخر لكنها تقاوم وتأبى أن تتحول إلى أطلال وتبقى ضاجّةً بالحياة في نفوسٍ كثيرة ولا تأبه بمحاولة من يريد تغييبها قسراً عن الواقع .. وقد تكون تلك مقاربة أخرى لذات الجدلية التي اشتبكت في رَوْعِ الشيخ الأكبر بن عربي فكان يعاقب جسده بالجلد طوال الليل لأنه لم يعد يقوى على حمل روحه التي تهفو إلى إدراك المعاني في مستوياتها الأسمى وتُهَزْهِزُها الأشواق للعالم الأسنى.
تداول كثيرون الصورة المرفقة وعلقوا عليها بشجنٍ وحزنٍ ودعواتٍ وأمل كما يليق بلحظةٍ طللية تداخلت فيها مشاعر الفراق والحنين للأمكنة وما عشعش في سوحها من ذكريات وما تبقى في مواقدها المنطفئة من رماد، وهي صورة لمبنَيَيْن تحولا إلى ما يشبه الأطلال وبينهما ثلاثة أشخاصٍ يسيرون في تآلفٍ وطمأنينة، رغم قسوة الحال، في اتجاه مسجدٍ ما زالت مئذنته منتصبة.
هذه الصورة وعديد التعليقات عليها شاهدٌ على أن الحرب في السودان وإنْ نجحت في تدمير المباني لكنها – رغم أنف دعاتها الذين يعلفونها بخطاب الكراهية والعنصرية وكل ما هو بئيس – عجزت عن تدمير المعاني النبيلة في نفوس ملايين السودانيين الذين يقابلون ويلاتها بصبرٍ وجلد وتضامنٍ نبيل، يتقاسمون اللقمة والمأوى وتتهلل وجوههم بالبِشْر لبعضهم بعضاً رغم بواعث الحزن، ويتشاركون العسر والأمل بخلاصٍ قريب.
ستنتصر إرادة الخير عند السودانيين وتهزم إرادة الشر التي تُذْكي نار الحرب في وطنهم، سيعود المشردون إلى ديارهم التي أخرجوا منها بغير حق ويملؤون المباني بالحياة ونبيل المعاني .. وعلى قواعد تلك المعاني النبيلة يؤسسون وطناً جديداً طالما أضناهم السهر شوقاً إليه رغم ما دفعوا في سبيله من تضحيات جسام، ويعبرون هذا اليباب إلى غدٍ نضير لا يكرر خيبات الأمس.