هذا العنوان مستعار من ست مقالات مسلسلة نشرها الدكتور جعفر محمد علي بخيت (1933-1976) في مجلة الخرطوم في ديسمبر 1968 إلى يونيو 1969، وناقش فيها بعمقٍ مشكلات السلطة وتنازع الولاء في السودان. ومن الحلول المبتكرة التي طرحها آنذاك، أطروحة الطريق الوسط، القائم على منظومة ثنائية متكاملة. يستند طرفها الثابت إلى مركز السُّلطة، ويمثل مظهرها العام؛ ويستمد طرفها المتغير شرعيته من حراك القُوى القطاعية (أو الحزبية)، الذي يتجدد حسب تجدد ميزان القُوى الاجتماعية، ويبرز ثقله السياسي عن طريق التدافع الديمقراطي، الذي تحدده صناديق الانتخابات. إذاً إن هذه العَلاقة الثنائية، من وجهة نظره، لا تقوم على إقصاء أية قوة من القُوى القطاعية لمصلحة قوة أخرى، بل تسعى جاهدة لتوظيفها جميعاً في خدمة الشأن العام، ويقترح لصون هذه العَلاقة الجدلية بين الثابت والمتغير جملة من القوانين واللوائح التنظيمية، التي يسنها ذوو الاختصاص ويتعاهد عليها الجميع. ثم يثمِّن شرعية هذا التقنين بأنها لا تهدف إلى تقسيم السُّلطة واستلابها وتقطيع أوصالها، ولا تشكل حلولاً وسطى تتواضع عليها القُوى القطاعية لتحقيق كسب عارض، بل هو أمر حيوي لضبط أداء الثابت والمتغير في نسق منظومة تهدف إلى صون المصلحة العامة وتسويرها، وتُعرف هذه المنظومة في قواميس الدراسات السياسية بـ”الرؤية الاستراتيجية”. ويفصِّل الدكتور جعفر بخيت في مقاله الخامس والصادر في أبريل 1969م ما أجمله بشأن الطريق الوسط، وطبيعة الرؤية الاستراتيجية المصاحبة له، وآليات تفعيله على صعيد الواقع. والمقال من وجهة نظري جدير بالقراءة والتدبر، وسماع الرأي والرأي الأخر، بالرغم من تكاثر السنوات التي مرت عليه، ومن ثم نورد نصه كاملاً أدناه.
المقال الخامس
السلطة وتنازع الولاء في السودان
الدكتور جعفر محمد علي بخيت
إن هيمنة السُّلطة على عجلة الحياة العامة، وتوجيهها لأسباب التطور في البلاد، وتحكُّمها في شكل الحياة المقبلة، يبرره في السُّودان تفتت الولاء، وبلورة وتعدد مراكز القُوى، وحاجة المواطنين بولاءاتهم المتقسمة إلى ضروب من الخدمات الاجتماعية، مرتبطة أساساً بالدولة الحديثة، التي يحتاج قيامها إلى قوة لها فعالية على تجميع الطاقات المشتتة وصهر عناصرها، ومثل هذا التجميع قد يتم بالرضا، وقد يتم بنوع من القسر لا يرقى إلى منتهى القهر، وإنما هو نوع من الضغط ليس بالعاتي ولا العنيف.
لقد عزلت فكرة ديمقراطية الحكم وزوال التحكم المتسلط منهجية التجميع بالعنف [13] القاهر، بل أن تجميع القهر المستبد لا يصح أن يسمى تجميعاً، فهو تحريك للعناصر المتجمعة على غير رغبتها، وهو حشد لها لم يضع في الاعتبار قدرة العناصر المتجمعة على الحركة الذاتية، وارتباط قوتها المنبثقة منها بوضعها البيئي.
إن السُّلطة في السُّودان لتكون فعالة دون أن تكون فعاليتها ضرباً من ضروب الاستبداد، لا بدَّ أن يتقسمها محوران: محور يدور على حكم الرضا والولاء الذاتي النابع من النفس والقطاعي المنحى، ومحور آخر يرتكز على الحكم بالتوجيه المنفصل عن سيطرة الاتجاهات المهيمنة والجماعية الاتجاه.
لقد كان المحور الثاني أرسخ مكاناً في عجلة السُّلطة، وأقدم عهداً، وبالتالي ارتبط بإنجازات أخلد في الحياة العامة، وتقاليد أقوم، ولكن لفترة طويلة كان هذا المحور يرتكز عليه محرك تديره طاقة من العنف والعنف الغليظ. ولقد أدى هذا إلى أن اختلطت السُّلطة التوجيهية بالسُّلطة الاستعمارية، وفسر الولاء المهني والنظرة الجماعية بأنه تعبير عن الاهتمامات غير الوطنية، بل حتى منجزاته الاجتماعية والاقتصادية فقدت دلالاتها الذاتية، وأصبحت فقط تعبيراً عن الرغبة في حفظ الأمن والنظام.
أما المحور الأول فهو نقطة ارتكاز التجمعات المحلية على أشكالها العامة، وهو الميدان الذي تبرز فيه القُوى القطاعية موضحة اتجاهاتها ورغباتها. والحركة الوطنية كما قد عَبَّرنا عنها في مقال سابق إنما هي في حقيقتها تجمع للقوى القطاعية، واقتحامها لميدان السُّلطة واحتلالها له. والذي نريد هو إزالة آثار العدوان، عدوان السُّلطة القطاعية على غير ميدان تخصصها واهتمامها. والذي نريد هو أن نرد للسلطة الموجهة المرتبطة بالولاء المهني اعتبارها القديم، وفعاليتها بعد تخليصها من آثار التسلط الاستعماري.
إن فعالية السُّلطة ترتكز على الجهاز التنفيذي، وهو اليوم محل احتكار أهل النفوذ القطاعي، وقد وصلوا إلى ذلك بالإثارة والاحتكام إلى الناخبين وأصواتهم، والجهاز التنفيذي يحتاج لأن يفك عنه أسر العقلية القطاعية المرتبطة بالنادي والشارع، والتي تنعكس صفاتها في الليلة السياسية، وفي الشعارات التي تقيد سير الحياة العامة، لأنها تربط سياسة السُّلطة بأماني ليست بعيدة عن الأحلام، وتبعدها عن الواقع المعاش، وتترك السُّلطة سجينة تاريخ قديم أو حديث، هي في الوقت نفسه خلقته من العدم. الجهاز التنفيذي إذن ليس احتكاراً قطاعياً خالصاً، وإنما هو وحدة محركة تعمل بمحركين، لكل منهما شكله الخاص، وكل واحد منهما تنفجر طاقاته بوقود خاص. إن مركبة كهذه غريبة في عالم المركبات، حتى الفضائي منها، ولكننا نعيش أيضاً في واقع أغرب من واقع الفضاء سياسياً واجتماعياً، ولهذا فإننا نخطئ إذا استبعدنا ما هو غريب بحكم تجارب غيرنا، مهملين واقعنا واحتياجاتنا.
[14] ووفقاً لهذا فإن الجهاز التنفيذي الذي تتمركز السُّلطة فيه يجب أن يكون للمحور المرتكز على السياسة الموجهة بالاعتبارات المهنية ميدان فسيح فيه، وسلطة هذا المحور لا ينبغي أن تكون قاصرة ومقصورة على دائرة ضيقة، هي التي تفصل بين مكتب الوكيل والوزير في الوزارة، بل إنها يجب أن تكون مستقلة وضاربة في الأرض نفوذاً وأعواناً وتقاليد معروفة للعمل. وهذه السُّلطة المكتبية لكي نمنعها من أن تصير تسلطاً فردياً يجب أن تستمد صلاحياتها من قانون يقترحه ويقدمه ويبني سياساته رجال السُّلطة الأخرى في الجهاز التنفيذي، الذي لأهله حق التوجيه العريض، ولكن ليس لهم حق المبادرة في تقرير طرق التنفيذ أو توليه عنوةً واقتداراً.
إن ممثلي القوة القطاعية يفسدون السُّلطة وتفسدهم السُّلطة، ولو ترك لهم محور السُّلطة المكتبية ليديروه فسيديرونه بما يعرفون، وما يعرفون لا يصلح للعمل به من حيث إنهم لو اكتفوا بواجب التوجيه العريض لمثَّلُوا القيم القطاعية واتجاهاتها، وأعطوا الإدارة صورة عن المناخ الفكري الذي ستتفاعل معه، وتتأثر به القرارات الإدارية.
إن الجهاز التنفيذي وهو تحت ضغط الثقل القطاعي، قد توزعت وزاراته ثلاث اتجاهات: اتجاه يرضي الأنصار بالخدمات الاقتصادية، واتجاه يرضي الزعماء القياديين بامتيازات ذات أنواع وأنماط، واتجاه يرضي (طلابه الحمر) بامتيازات من الجاه والسلطان، ولكل اتجاه وزاراته. وإنني أخال زعماء المشاعر القطاعية قد ضجوا بالشكوى مما يلاقون من عنت وإرهاق في الاستجابة لأنصارهم، ولابد أنهم سيرون إذا ما تولى الجهاز العام كل المهام التي تستثير الشكاوى والطموع، فيتفرغ أهل الاتجاه القطاعي للتوجيه العريض ورسم السياسات.
وإذا ما استجيب لهذا ستكون رخص الاستيراد، والأسلحة، والطلمبات مثل الرخص التجارية، محل مسؤولية المكاتب الإدارية، وسينتهي ما نسمعه من فساد أو استقلال النفوذ، وهذا أمر قد لا يرضاه الجميع.
إننا نحد من سيطرة محور النفوذ القطاعي، لا لأننا نريد دولة الموظفين وسيطرة البيروقراطيين، ولكن لأننا نبتغي تقوية دور ومركز الوظيفة، ونبتغي إعلاء سلطة المكتب، وممارسة السُّلطة ليست ضرباً من التصرف العفوي، وإنما هي احترافٌ له تقاليده ومثله وإجراءاته، فإذا سلمنا بحق السُّلطة السياسية، وهي في واقعنا المعاصر تحالف لقوى قطاعية معينة ذات ارتباطات فردية وفئوية في التوجيه العريض، ورسم [15] السياسات، وفي حقها أن تمارس نشاطها في ميدانها بما ألفت، وتحذق من أساليب كانت تلك أساليب السُّلطة الزرقاء، أو أساليب حفلات الشاي، أو تجمعات ما بعد الصلاة، فإن السُّلطة الإدارية يجب أن تسير أمورها وفق ما ينبغي لها.
وتوزيع السُّلطة بين محويين: المحور السياسي القطاعي النزعة ذي العقلية المنفعلة أبداً بالضغوط الفئوية الإقليمية، والمتأثرة كثيراً بالنتائج السريعة المتوقعة في المستقبل القريب، والمحور الإداري ذي الولاء العام المتنامي فوق الارتباطات القطاعية، والانحياز الضيق الذي تسيره العقلية المكتبية، وهو أكثر حساسية للنتائج ذات المدى البعيد، وأقل انفعالاً بالضغوط اليومية النابعة إما من حوادث فردية، أو من واقع طارئ ليس له من الديمومة ما يبرر تغيير القوانين وقلب الأوضاع.
توزيع السُّلطة بين هذين المحورين يحتاج إلى تفصيل وتحديد؛ لأنه لو ترك لمبهمات المثل، وظل الحديث عن التعاون والمصلحة العامة وخدمة الوطن، لغدا محل التنازع والتغول ثم الدسائس والمؤتمرات، وانتهى أمره أخيراً إما بالكبت وإما بالعصيان. والتوزيع المفصل المحدد يتم لشيئين: نصوص دستورية واضحة عن واجب الجهازين السياسي والإداري في السُّلطة التنفيذية، وقوانين ولوائح متعددة توضح كل العمل الإداري، لكل وزارة، وإجراءات أعمالها، وحدود مسؤوليات موظفيها، وعلاقات وإجراءات العمل بين المكتب السياسي للوزارة والمكتب الإداري.
والجهاز السياسي ممثلاً في مجلس الوزراء وفي المكاتب السياسية المختلفة بالوزارات أكثر من غيره حاجة لتقنين وتأسيس إجراءاته وأعماله، إذ هو حديث العهد كجهاز يمارس السُّلطة وليس عنده من التقاليد ما ييسر له ممارسة عملية دون الحاجة لنصوص ولوائح، بل التقاليد التي لديه نابعة من خبرة غير مكتبية قائمة أساساً على الانفعال المستثار نتيجة حدث فردي أو واقع طارئ. ولقد كان نشاط الحركة الوطنية أصدق تعبير عن هذه الخبرة، إذ ارتبطت بالحوادث الفردية، وغدا نشاطها نوعاً من “النوبات” أو الانتفاضات الموسمية.
وأعمال مجلس الوزراء في كل العهود بعد الاستقلال لم تستطع أن تخرج من أسر الخبرة التاريخية، التي نالها العاملون في القطاع السياسي، واصطبغت بها الحركة الوطنية، والحياة السياسية عموماً، والتي تميزت بقصر النفس وبفقدان عنصر المبادرة، وعدم القدرة على مواجهة الضغوط لصدها أولاً، ثم الارتفاع فوقها ثانياً، ثم العمل على توجيهها بالاستجابة أو بالصد في حرية، وربما كانت هناك بعض المحاولات الناجحة في هذا المضمار، ولكنها فيما عدا تجربة الحكم الذاتي التي انتهت بالاستقلال، والتي لا نجد لها مثيلاً في معظم الأقطار النامية، ولا في تاريخنا المعاصر، كانت كلها محاولات متعثرة أجهضها ضغط الحوادث المعاصرة، أو عدم استقرار السُّلطة السياسية لوقت كاف في أيدي معلومة.
[16] وقد أدت زحمة الأحداث وتتابعها إلى أن تزدحم أجندة مجلس الوزراء بالأعراض الطارئة والمسائل المحددة، ورغم أن بعض مسائل الإصلاح قد اهتم بها، لكن هذا الاهتمام هو أيضاً قد أخذ الشكل الفردي الإداري. وكثير من القلقلة التي نشكو منها راجع إلى هذا الانغماس المبالغ فيه في معالجة كل المشاكل الإدارية، والتي يزيد في حدتها وفي خطرها أن المتقلدين للسُّلطة ورغبتهم في أن يحققوا أكبر قسط من السياسة وتركيزها في نطاق محدد، حتى رغبتهم في أن يحققوا أكبر قسط من المطالب الفئوية ليتصدوا لكل مشكلة من شكاوى المزارعين عن زيادة تكاليف الإنتاج إلى مظاهرات الباعة المتجولين، حتى أصبحت قطاعات السُّلطة لا معنى لها، وحتى كدنا نعود لبدائية السُّلطة، حيث تتركز في فرد يجلس تحت شجرة أو في قصر يقضي فيه الأمور بالفطرة السليمة، بلا ملف، ولا مكنة كتابة، ولا لوائح أو سوابق.
كل هذا يستلزم تحديد وتقنين السُّلطة السياسية وتركيزها في نطاق محدد، حتى يتم بناء تقاليد لها، ثم من بعد ذلك يمكن تعديد صلاحيتها، وإيجاد متنفس إداري لنفوذها، وفي علاقة الجهاز السياسي بالإداري يجب أن نضع في الاعتبار، ليس فقط نظريات التنظيم السياسي، ولكن أيضاً الواقع في السُّودان. إننا كلنا ننشد التغيير، ولكن من الذي يحقق ويمثل إرادة التغيير عن طريق السُّلطة؟ السياسيون أم المكتبيون؟ هذا ما سنوضحه مستقبلاً.