السؤال الذي يحتاج إلي إجابة أن قائد القوى العسكرية التي اسقطت النظام البعثي في سوريا هو ” أبو محمد الجولاني” تلميذ ” أبو مصعب الزرقاوي” و هو أحد أمراء تنظيم القاعدة، و طرحت أمريكا عشرة مليون دولار لمن يقدم معلومات عنه و أماكن تواجده، و أطلقت عليه صفة الإرهابي، الآن الإعلام الأمريكي يصفه محرر دمشق من النظام البعثي الذي أصبح تحت أمرة القيادة الايرانية، كيف تحول من إرهابي في نظر الإدارات الأمريكية المتعاقبة إلي أن يصبح بطل تحرير؟
يذكرنا مقولة رئيس الوزراء البريطاني في زمن الحرب العالمية الثانية ويستون تشرشل الذي قال (ليست هناك صداقات دائمة و لا عداوات دائمة بل هناك مصالح دائمة) و مصالح الدول هي الثابته، و لكن الوجوه التي تتعامل معها هي المتغيرة.. أن سقوط البعث أيضا يطرح سؤالا مهما جدا؛ هل سقوط آخر معاقل حكم البعث و تجاربه في السلطة هي نهاية لفكرة القومية العربية في الشأن السياسي؟ إذا كانت هزيمة العرب في 1967أمام إسرائيل كانت بداية لتراجع الفكر الذي ارتبط بالقومية العربية، فسقوط دمشق تعني نهاية حكم القوميين العرب.. أتذكر مقولة للدكتور محمد المهدي الذي كان المسؤول العسكري في القيادة القطرية لحزب البعث في السودان بعد نجاح الثورة الإيرانية 1979م و كان قد انشق عن الحزب، و عندما نجحت الثورة الإيرانية قال ” أن الثورة الإيرانية تعد بداية النهاية لفكرة القومية العربية، و أن الفكر الإسلامي سوف يتسيد الساحة السياسية، و بالتالي لابد من مراجعات حقيقة لفكرة القومية..
أن القوى المتحالفة التي يقودها أحمد الشرع ” الجولاني” هي قوى مدعومة بقوة من قبل انقرة، و خطاب الشرع من داخل الجامع الأموي في دمشق له مدلولات سياسية و عقدية، و إشارة واضح أن النفوذ الإيراني في دمشق قد أنتهى، و هو بداية لنفوذ جديد سياسي و ديني جديد مغاير تماما لإستراتيجية استمرت طويلا أكثر من ست عقود متواصلة، هذا التغيير لابد أن يكون له أنعكاسات في المنطقة، و تغيير في التحالفات، و أيضا ينعكس على روسيا الحليف الإستراتيجي الذي كان لنظام أبناء الأسد الذي منح روسيا موقعا استراتيجيا في البحر الأبيض المتوسط في مواجهة الدول الأوروبية، هل النظام الجديد سوف يسمح لروسيا البقاء في المواني السورية، أم أنه سوف يطالبها بالمغادرة؟.. هنا يأتي دور الغرب في الصراع من أجل تبني و إحتواء النظام الجديد حتى يصبح طاردا للوجود الروسي، هذا الأمر سوف يجعل روسيا تبحث عن مواقع جديدة أكثر تأثيرا في مجرى التجارة العالمية، و تعود لفكرة تواجدها في البحر الأحمر، و الذي تمر عليه أكثر من 75% من التجارة العالمية، هذه التحولات لها أثرها المباشر على مجريات الأحداث في المنطقة، و سوف تحدث متغيرات كبيرة في التحالفات.. أن العديد من الدول خاصة الامارات سوف تجد نفسها أمام خيارات أصعب من قبل، و هذا سوف يجعلها تعيد حساباتها في الشأن السوداني..
إذا نظرنا إلي أثرها على دول المحيط نجد أن سوريا تقع وسط المناطق المشتعلة، إسرائيل و العراق و فلسطين و تركيا و الأردن و لبنان.. بالضرورة سوف تحاول العديد من الدول أن تمد أرانب أنوفها في الشأن الداخلي السوري، و تخلق تكتلات و تحالفات داخلية لكي تخدم أجندتها الخاصة دون الآخرين، و تحتاج ألي قدرة عالية في إدارة الأزمة، إذا استطاعت القوى الجديدة أن تفتح بابا للحوار الوطني و الوصول لتوافقات تخدم استقرار و أمن سوريا و تحافظ على وحدتها و استقلالها..
كما أن التغيير في سوريا أكد أن الأفكار لا تموت، و لا تقتل، لذلك يجب التعامل معها بكياسة و حكمة سياسية تقود البلاد إلي حوار سياسي دون ممارسة الفيتو الذي درجت عليه القوى السياسية اليسارية، و رغم أنها لا تملك القاعدة الاجتماعية التي تسندها في المجتمع.. كما أثبت الأحداث في ثورية أن فكرة التغيير لم تنطفي جذوتها، رغم كثافة الرماد الذي يغطيها، لذلك أفضل طريق للاستقرار هو الحوار الوطني بعيدا عن الفوذ الخارجي الذي لا يبحث إلا عن مصالحه و استغلال الآخرين.. أن القيادات السياسية السودانية يجب أن تدرك أن السلطة التي تبحث عنها في عواصم دول الجوار و الغرب مرهونة بالمساومات التي تديرها تلك العواصم، و ليست قناعة في القيادات التي قدمت نفسها خدمة لأجندة العواصم الخارجية..
أن أحزاب البعث في السودان التي فشلت في الممارسة الديمقراطية و تشظت لعديد من المنظومات البعثية، أن تجربة القومية العربية السياسية قد فشلت في الحكم، إذا كان في العراق أو في سوريا، و لم تقدم أية نماذج يمكن ذكرها بعيدا التسلط و الديكتاتورية و انتهاكات الحقوق و القتل و السحل، لذلك عليهم أن يرجعوا إلي رؤية المفكرين الراحلين ” محمد على جادين و عبد العزيز حسين الصاوي” في إعادة قراءة القضية المركزية للبعث. و النظر إليها من خلال رايات الديمقراطية.. أي أن تصبح الديمقراطية هي محور الصراع ليس في السودان و لكن في الوطن العربي، لأنها هي وحدها التي تخلق الوعي الشعب و المشاركة الشعبية.. نسأل الله حسن البصيرة..