*خطاب دقلو..بين نواح الهزيمة و بشارات النصر* *د. اسامة محمد عبدالرحيم*

على كل ما اتسمت به غالب ان لم تكن كافة خطابات القائد المليشي للقوات المتمردة علي الجيش و الدولة السودانية محمد حمدان دقلو من بؤس و فقر و تناقض في الشكل و المضمون، لم أرَ خطاباً بمثل بؤس و فقر خطابه الأخير الذي بُثَّ بتأريخ الأمس الجمعة الموافق الحادي و الثلاثين من شهر يناير للعام 2025، فقد بدا فيه دقلو كما لم يبدُ من قبل مهزوزاً منكسراً مشتتاً. و الحقيقة ان هذا الامر كان واضحاً و جلياً لكل من استمع و تأمل في هذا الخطاب. و هنا نود أن نشير إشاراتٍ لبعض ملاحظاتٍ و خواطر من واقع مشاهدة الخطاب و الاستماع إليه، نلخصها في الاتي:

لقد جاء الخطاب و منذ مقدمته، موجهاً من دقلو لقواته المتمردة و مركزاً عليها محاولاً تجديد تماسكها و استنهاض قواها ما امكن بعد بروز كل مظاهر و ملامح التشتت و الانهيار من واقع خسارته لعدة مواقع و جملة معارك انتجت تحرير مدني، الجيلي، معظم بحري و القيادة العامة، مع استعصام الفاشر الصامدة بمصاحبة جملة من الخسائر في الانفس و العتاد العسكري.

لقد حوى خطاب دقلو ، اعترافاً واضحاً بانحسار مساحات و مواقع مليشيا التمرد( انتشارا و سيطرةً)، في مقابل توسع و ازدياد مواقع الجيش السوداني و توابعه من قوات مشتركة و امن و مخابرات و مستنفرين (انتشارا و سيطرةً) ، مما جعل دقلو ينادي قواته المنكسرة و الهاربة هنا و هناك بامكانية استعادة وضعها و هو نداء اجوف لم يستوعب حقيقة ان القوات المتمردة التي اشعلت الحرب في 15 ابريل من العام 2023 لم تعد هي نفسها قوات اليوم، فقد فقدت الكثير من عناصرها الصلبة و المدربة بما يعرف بقوات النخبة كما فقدت معظم عتادها و عدتها القتالية المؤثرة، كما انه في المقابل ازداد الجيش قوةً و دربةً و لياقةً و تماسكاً و درايةً بفنون القتال في المدن و المناطق الحضرية .

و كعادته في خطاباته، ارسل دقلو تهديدات و تحذيرات و التي اثبتت يوميات القتال و وقائعها انها لم تقتل ذبابة كما تأكد كذبها و عدم صحتها، حيث تظل اشهر تهديداته تلك التي اطلقها في نهار اندلاع الحرب يوم 15 ابريل من العام 2023 بانهم قد استلموا القصر و القيادة العامة و كافة المطارات و ان البرهان محاصر و لن يكون في وسعه (اي البرهان) فعل أي شئ غير الاستسلام، و غير ذلك من التصريحات و التهديدات الكثير.

ان ظهور دقلو اعلاميا و هو يلف حول كتفيه و عنقه (الكدمول) مع تخلصه من العلامات العسكرية للكتف و الصدر، انما هو دلالة كبرى على عودته لجذوره واصله و قناعته بعدم جدارته و كفاءته و اهليته لارتداء مثل هذه العلامات التي تميز العظام من القادة العسكريين بحق، و هو نفسه كان قد اصدر توجيها لقواته في وقت سابق بعدم ارتداء الكدمول في المدن خاصة الخرطوم، فكأنما اراد دقلو ان يرسل رسالة ايذانٍ بمرحلةٍ جديدةٍ فيها عودة و بداية من جديد حيث كان اول مرة في مكانه الطبيعي و مقامه الذي يستحقه.

كذلك فإن البزة العسكرية الواسعة (المهلهلة) التي ارتداها دقلو في تسجيله الاخير ، تؤكد ان زمان الاهتمام بالهندام و القيافة في الملبس قد ولى خاصة ان الرجل عرف عنه ايام عزه و سطوته و سلطته اناقته و دقيق اهتمامه بمظهره ، ناهيك عن تقطيبة الجبين و الرهق البادي على محيا و ملامح الرجل و اعتلاء الشيب لشعر رأسه و صدغيه و منابت اعلى وجهه ، حيث يعكس هذا المظهر حالة الهزيمة و القلق و تأثير الصدمات التي مني بها و ما تعرضت له قواته على الارض من هزائم متلاحقة .

فنيا، ان التقطيع الواضح و البيِّن و الذي لازم التسجيل و في مراحل عديدة من عمر التسجيل يؤكد ان مجهوداً كبيراً قد بذل في مونتاجه و انتاجه ليخرج بشكل جيد، و خروجه بعد هذا الجهد بهذا السوء يؤكد و يعكس كذلك سوء موقف قوات المليشيا على الارض و ضعف قائدها و وهنه و اضطرابه.

إن استخدام دقلو لالفاظ مثل (اسود و اشاوس و انتم الذهب ) مخاطباً بها قواته و في اكثر من موضع، انما هي من ضمن المحاولات لرفع الروح المعنوية في اوساط مقاتليه و التي يبدو انه ادرك انها في ادنى مستوى لها مما يستوجب محاولة نفخ الروح فيها، كما انه طلب رفع هذه الروح المعنوية صراحة.

كذلك فإن استخدامه لفظة ( الشعب)، ثم استدراكه بقوله (جزء من الشعب) انما هو نتاج سيطرة عقله الباطن على لسانه و اعترافه الضمني بحقيقة ان غالب هذا الشعب انما يقف خلف الجيش و المقاتلين معه من قوات مشتركة و جهاز امن و مستنفرين.

إن حديث دقلو في خطابه عن اصحاب الامتيازات و عن الفساد و الدمار، انما هو عين (الاسقاط) الذي عرفه علم النفس، حيث ان الإسقاط في علم النفس انما هو آلية دفاعية لا شعورية يقوم فيها الفرد بنسب مشاعره أو أفكاره غير المقبولة إلى الآخرين، بدلاً من الاعتراف بها في نفسه و عليها. حيث يستخدم الشخص هذه الآلية لتجنب الشعور بالذنب أو القلق الناتج عن امتلاك مشاعر سلبية، بان يسقط ما يقوم به فعلا على الآخرين، و تظل الحقيقة أن تأريخ السودان قديمه و حديثه ما عرف مثل الهالك في نيل الامتيازات و سلوك سبل الفساد الاداري و المالي حتى بلغ بهذا الفساد ما بلغ فارتد به كأعظم ازمة و كارثة ضربت عنق السودان و صدره و احدثت فيه من الدمار و الخراب ما أحدثت و لا تزال.

أن إستمرار دقلو في ذكره صراحةً في كل خطاباته الاخيرة لقيادات و رموز اسلامية معروفة و هم (علي كرتي، اسامة عبدالله و احمد هارون) استرضاءاً لجهاتٍ اقليميةٍ أو دوليةٍ و محاولته استدرار عطف هذه الجهات لدعمه مجدداً او مواصلةً ، و ترهيبها بما يؤرقها و يشغلها من ناحية السودان و احتمالات بان يعود هؤلاء لحكمه، ان استمراره هذا و بهذه الطريقة انما يضره و لا ينفعه بل انما يخدم بقوله هذا خط هؤلاء الرموز من قادة الاسلاميين، و الرجل يبدو انه لا يدري انه كل ما ذكرهم انما هو يضيف و بغير علمه اضافة كبيرة و مقدرة لشعبيتهم و يعلي من قدرهم و وطنيتهم امام شعبهم و مواطنيهم خاصة دورهم في مواجهته و التصدي لقواته المتمردة و مدى اثرهم و تاثيرهم في معركة الكرامة، حيث ان هذا الشعب السوداني الان لا يعجبه و لا يطربه الا من يخيف دقلو و زمرته و يرعبهم و يتصدى لهم.

و من ناحية اخرى، يبدو ان دقلو غير راضٍ عن رجل الأعمال اسامة داؤود و آخرين ، و هو ما حاول ان يوحيه الرجل همزاً و لمزاً، كما ان في هذا الجزء اشارة خفية و ناعمة للراعي الاقليمي ( دولةالامارات) فيها من اللوم و العتاب ما فيها ، فهل هي الغيرة و التنافس في حضرة الرعاة و أصحاب العمل و السادة ام أن هناك تبدل في المواقف؟.

إن وصايا دقلو لجنوده بالتحصين و المحافظة على الوضؤ و ذكره لآيات من القران، انما هي محاولةً منه لدغدغة مشاعر و وجدان الشعب السوداني الذي عرف عنه التدين بالفطرة و هي محاولة منه كذلك ليضفي على خطابه مسحة من كريم الأخلاق و قويمها، مع ان واقع ممارسات جنوده الاوباش لم تترك لقوات و مليشيا التمرد مساحة للتحلي بالدين او الاخلاق و لا الاعراف، بل خالفت هذه المليشيا كل اخلاق القتال و القوانين و اللوائح الانسانية و الدولية التى تناولت قواعد الاشتباك او التعامل في الحروب او النزاعات المسلحة بشكل لم تسبقها عليه اي قوات نظامية او مليشية على مر التأريخ .

و مما يلفت النظر في خطاب دقلو، قوله و في توجيه مباشر لجنوده بانه تحدث مع قادته الميدانيين عن (الاهتمام بمواقع معينة و محددة و استلامها) و قوله كذلك :(عشان كده انا ما داير اوضح.. في كلام حيصلكم من القادة بتاعينكم)، انما هو اشارة يجب التعامل معها بجدية من قبل اجهزة الاستخبارات و الامن، هذه الإشارة تفيد بان الرجل قد اجتمع بقادته الميدانيين كفاحا و بالتالي و بنسبة كبيرة يبدو أن احتمال وجود دقلو و تحركه داخل حدود السودان (هذه الايام) امراً راجحاً و غالباً .

و إن كان هناك ما يميز دقلو في ظهوره الأخير، فهو هذا التضعضع الواضح في الخطاب و مضمونه المنكسر و المتراجع و إكتفاءه بالداخل و إنكفاءه عليه ، مما يعكس الحالة النفسية و العسكرية للقوات المتمردة في القتال، عكس ما بدأت به هذه القوات المتمردة في خطابها الاعلامي العسكري في بداية الحرب و الى فترة قريبة، حيث كان خطابها يضج و ينضح انتفاخاً و زهواً و بجاحةً و تنمراً على الجميع.

ان مجمل و مفصل ما اورده دقلو في خطابه من عبارات و مضامين، انما هو سجل موثق للاعتراف بالهزيمة و التقهقر و الجأر بالحرقة و العجز في حضرة الجيش العظيم الذي يبدو انه قد كسر فعلاً و عملاً العمود الفقري و عظمة الظهر لقوات و مليشيا التمرد حتى اضطر قائدها للنواح و العويل عسى و لعل أن يسترد عظمةً و سلطاناً يبدو انه قد ذهب إلى غير رجعة و لن يعود، و هنا يجوز لنا ان نقول له رداً لبضاعته التي أستخدمها في خطابه البائس (و املي لهم ان كيدي متين) ان الله قد املى لك بكيد متين من عنده، و انه جل و علا قد (نزع عنك ملكاً و سلطةً) بعد ان أتاك اياها فغفلت و فرطت و ها انت تدفع الثمن باهظاً .

و ان كان ثمة حقيقة اخيرة،فهي إن دقلو و قواته المتمردة قد تحطمت احلامهم و آمالهم و اوهامهم عند صخرة الجيش السوداني ، و إن الجيش السوداني الباسل ، قد انتصر حقا في مواجهة قوى الشر و أذرعها المحلية و الاقليمية و الدولية و اجبرها على تغيير مواقفها و اقوالها و أفعالها رغم الثمن العالي المبذول و الذي لا يهون في سبيل فداء و نصرة الاوطان و الشعوب الحرة.

*السبت الموافق 1 فبراير 2025*

مقالات ذات صلة