صدر كتاب “وظلم ذوي القربى: الطريق إلى اليونسكو” لمؤلفه حمد بن عبد العزيز الكواري عن دار جامعة حمد بن خليفة للنشر في العام 2019، أي بعد عامين من إعلان نتيجة انتخاب الأمين العام الحادي عشر لمنظمة التربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، التي كان المؤلف أكثر مرشحي تلك الدورة التسعة حظًا بالفوز لولا ظلم ذوي القربى، الذين أضاعوا فرصة ذهبية للثقافة العربية بأن يكون لها دور في تسيّر الشأن الثقافي الدولي. ولذلك جاء عنوان الكتاب الرئيس مستلهمًا من بيت طرفه بن العبد: “وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً *** عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ.” يتكون الكتاب من 287 صفحة من القطع المتوسط، مقسمة إلى مقدمة، وثمانية عشر فصلًا، وخاتمة. وتتقاطع محتوياته مع ثلاثة أجناس أدبية: أدب السيرة الذاتية، وأدب الرحلات، وأدب الدبلوماسية الثقافية، التي وصفها المؤلف بأنها من جسور العبور الآمنة إلى مرافئ السلام المستدام بعيدًا ثقافة الحروب والنزاعات المدمرة. ولذلك لم يكن “وظلم ذوي القربى” مجرد شذرات من سيرة ذاتية، أو قراءة سطحية من داخل كواليس حملة انتخابية أممية، بل وثيقة ثقافية ودبلوماسية تلقي إضاءات ساطعة على مفارقات السياسة العربية والعالمية، وتُظهر كيف يمكن أن تتحول منافسة ذات طابع ثقافي إلى معركة سياسية بامتياز، بُذل المال فيها رخيصًا لشراء الذمم، وسقطت الأقنعة الأخلاقية لتصفية الخصومات الآنية، وبذلك استبدل بعض ممثلي الدول العربية الذي هو أدنى بالذي هو خير. ويستقيم ميسم هذا الكتاب بفضل أنه يوثق لتجربة عربية استثنائية؛ تكتنز العديد من الدروس والعبر المفيدة، للذين يدركون النصح بمنعرج اللوى.
أهمية الكتاب
تكمن أهمِّيَّة هذا الكتاب- من وجهة نظري- في القضايا الآتية:
أوَّلاً، يقدِّم الكتاب أطروحةً داحضةً لفرضيَّة صدَّام الحضارات، الَّتي أسَّس لها المستشرق برنارد لويس، وروَّج لأدبيَّاتها صامويل هنتنغتون في كتابه الشَّهير “صدَّام الحضارات وإعادة صنع النِّظام العالميِّ”، الَّذي يصعب أن تقف مسوِّغاته أمام إرث الإنسانيَّة المتَّصل ثقافيًا عبر الحضارات والأمم. ويرى الكواري أنَّ الدَّالَّة التَّكامليَّة لهذا الإرث الإنسانيِّ تتجسَّد في مجالات متعدِّدة، مثل الدِّين، واللُّغة، والفكر، والعلم، والفنُّ، والتِّجارة، والتِّكنولوجيا. فالأديان انتشرت عبر القارَّات المختلفة، وتركت آثارها المادِّيَّة وتراثها الثَّقافيَّ، اللَّذين شكَّلا جزءًا من هويَّات الشُّعوب المنتمية إليهما؛ وتناقلت الأجيال المتعاقبة منتوجات الفلاسفة والعلماء والفنَّانين الفكريَّة والأدبيَّة عبر الأزمنة المتلاحقة والأمكنة المتباعدة؛ كما شكَّلت المدن التِّجاريَّة والطُّرق الواصلة بينها والرَّحَّالة العالميِّون أمثال ماركو بلو (1254-1324م) وابن بطُّوطة (1304-1368م) أنماطًا أخرى من أنماط التَّواصل الإنسانيِّ بين الشَّرق والغرب. وبذلك تحقَّق الانفتاح الإيجابيُّ، والتَّواصل الحضاريُّ، والتَّبادل المعرفيُّ بين العلوم والفنون، والتَّنوُّع الثَّقافيُّ الَّذي أكَّد على ضرورة التَّواصل مع الآخر. ومحصِّلة ذلك أنَّ التَّواصل بين الحضارات ظل يمثِّل ركنًا أساسيًّا من أركان التَّطوُّر البشريِّ، الَّتي أسهمت في صناعة هويَّات الشُّعوب الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة، ثمَّ عزَّزت فرص التَّلاقح الفكريِّ بينها. ولذلك يرى الكواري أنَّ جدليَّة التَّواصل بين القديم والجديد، والخصوصيَّ والكونيِّ، والمحلِّيَّ والعالميِّ ستظلُّ فاعلةً “في بناء الهويَّات الفرديَّة والجماعيَّة بفضل نمط تبليغ تلك التَّقاليد”، ويمثِّل فنُّ التَّبليغ في حدِّ ذاته “الأساس الخفيَّ والسِّرَّ المكين لبقاء الثَّقافات رغم غوائل الزَّمن وفواعل التَّحوُّل. وهو الَّذي يصنع الاختلاف مع الآخر دون يدعو إلى الصِّدام، وهو نفسه ما يسمح باستصفاء هذا الوجه الجديد، أو ذاك المنحدر من ثقافة أخرى، أو من القيم الكونيَّة.” وينظر الكواري إلى قضيَّة التَّوافق بين القيم الكونيَّة والتَّقاليد الخصوصيَّة من واقع ظلَّت تمارسه الشُّعوب، يستشهد لذلك بعمارة سوق واقف في الدَّوحة، الَّتي تمثِّل أنموذجًا “للتَّفاعل الثَّقافيِّ الَّذي يحافظ على الرُّوح القطريَّة في أدقِّ خصائصها ويعيد صياغتها معماريًّا على نحو منعش لها، يدرجها ضمن رؤية حديثة حقًّا، فلا إفراط يذيب القديم ويمحوه، ولا تفريط في الحاجة الأكيدة إلى التَّجديد انطلاقًا من القديم”(33).
ثانيًا: في وظل هذا التواصل الثقافي المتصل يرى المؤلف أن الثورة التكنولوجية قد أسهمت في تدفق المعلومات وتداولها بطريقة يصعب السيطرة عليها؛ لأنها تجاوزت سياج الرقابة المؤسسية والمجتمعية التي يزعم سدنتها أنهم يمتلكون الحقيقة النهائية دون غيرهم؛ علمًا بأن الحقائق نفسها قد شُوهت بتطور “تقنيات التلاعب بالعقول وتوجيهها، ونشر الأكاذيب والإشاعات والأفكار الهدامة التي تبلغ حد الجرائم.” (ص: 38) إذًا عملية الرقابة التقليدية لا تجدي فتيلًا في بحر متلاطم الأمواج من المعلومات الغثة والثمينة، ولذلك يوصي الكواري بالانتقال من مربع الرقابة التقليدية إلى فضاء التربية المعرفية المكتسبة، الناظمة لمفاهيم الإعلام وتداول المعلومة وفق معايير دولية، يراعى فيه حرية التعبير والتفكير والالتزام بأخلاقيات الحوار والتعديل الذاتي؛ لأن الانحرافات والاختلالات لا يمكن مواجهتها إلا بالتربية القويمة والحوار البناء القائم على أخلاقيات كونية وقيم خصوصية. كما أن المعلومة نفسها قد انعتقت من سطوة الدوائر النخبوية والسلطوية المغلقة، وأضحت متاحةً للجميع، يشاركون في صنعها والترويج لها، فلا “فضل لأحد على أخر إلا في قوة المحاجة والقدرة على استمالة المخاطبين.” (ص: 39) ولذلك أُثمِّن توصية الكواري، التي يجب أن يؤخذ بها في الحسبان؛ لتدارك المشكلات التي تعاني منها المجتمعات البشرية، التي ترتفع فيها مناسيب التجهيل والاشاعات عبر وسائط التواصل الاجتماعي ارتفاعًا طرديًا مع ارتفاع مناسيب الجهل وغياب التربية السليمة.
ثالثًا، يوثِّق الكتاب لفكرة ترشيح الدُّكتور حمد بن العزيز الكواري منذ أن عرضها عليه سموِّ الأمير الوالد الشَّيخ حمد بن خليفة آل ثاني عام 2012؛ تقديرًا لجهوده في إنجاح فعَّاليَّات الدَّوحة عاصمةً للثَّقافة العربيَّة عام 2010، فضلاً عن إسهاماته في مجال العمل الدِّبلوماسيِّ والعمل الثَّقافيِّ، اللَّذان يشكِّلان ضلعي خبرته المهنيَّة المتراكمة، والمعزَّزة بضلع قاعدة المثلَّث الثَّالث، المرتكز على بنية متطوِّرة، بدأت مراحلها التَّأسيسيَّة الأولى من حواضن معرفيَّةً مرموقةً في القاهرة (كلية دار العلوم بجامعة القاهرة) وبيروت (جامعة سان يوسف) وباريس (جامعة السوربون) وبولاية نيويورك (جامعة ستوني بروك). وانطلاقًا من فكرة التَّرشيح انتقل المؤلِّف إلى الرُّؤية والبرنامج، ومسوِّغات الاستحقاق العربيِّ في الدَّورة الحادية عشرةً، استنادًا إلى إرث الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة الَّذي رفد المجتمع الكونيُّ بمنحازات فكريَّة وثقافيَّة مقدرةً في مجال العلوم التَّطبيقيَّة والعلوم الإنسانيَّة والاجتماعيَّة، مقرونًا بعمليَّة تكافؤ الفرص في إدارة المنظَّمة الدَّوليَّة بين الكتل الثَّقافيَّة المكوَّنة لها. وبناء على هذه الاستحقاقات الموضوعيَّة وبطاقة المرشَّح الفكريَّة الَّتي كان شعارها “على قدر أهل العزم تأتي العزائم”، بدأ الكواري رحلاته الماكوكيَّة، الَّتي شملت سبعين دولةً من الدُّول التي لها عضوية في المكتب التنفيذي للمنظَّمة والدُّول المستهدفة ببرنامجه الإصلاحيِّ، المتجاوز لإرث النَّظرة الاستعماريَّة الاستعلائيَّة والرَّامي إلى مساعد الدُّول الأقلِّ حظًّا في التُّربة والعلوم والثَّقافة.
رابعًا، يعرض الكتاب كيف فاز المرشَّح القطريُّ في الجولات الثَّلاثة الأولى لمنصب الأمين العامِّ لمنظَّمة اليونسكو، استنادًا إلى برنامجه الانتخابيِّ جيِّد الصَّنعة وكفاءة التَّرويج له ولشخص المرشَّح صاحب الامتياز. ولذلك جاءت انتخابات الجولة الرَّابعة مبهجةً من طرف ومحزنةً من طرف آخر. يتمثَّل طرفها المبهج في أنَّ الكواري قد حصل على 28 صوتًا مقابل 30 صوتًا للمرشَّحة الفرنسيَّة، أودريه أزولاي (Audrey Azoulay)، الَّتي تفوق عليها بفارق مقدَّر في الجولات السَّابقة، ممَّا يدلُّ على جودة برنامجه الانتخابيِّ وقدرته على إقناع النَّاخب الأمميِّ ليُصوت لصالح برنامجه الخادم لأهداف المنظَّمة الأمميَّة والمستجيب لاحتياجاتها الآنيَّة في ذلك الوقت. ويتجسَّد الطَّرف المحزن في موقف بعض الدُّول العربيَّة الَّتي تكتَّلت ضدَّ المرشَّح القطريِّ، مساندة المرشَّحة الفرنسيَّة، مضحِّيةً بالأبعاد الإنسانيَّة لرؤية المرشَّح القطري الجديدة والقيم الأخلاقيَّة الكبرى على مِقْصَلَة “الأحقاد والنَّوازع الذَّاتيَّة الضَّيِّقة، فضاعت فرصة أخرى أتيحت للثَّقافة العربيَّة” بأن يكون لها دور إيجابيّ في إصلاح مسار اليونسكو وتفعيل أهدافها في خدمة المجتمعات الأقل حظًا في خدمات التربية والعلوم والثقافة.
خامسًا، وعلى المستوى الشَّخصيِّ تعاظم هذا الحزن عندما كتب الكواري مقالاً بعنوان “جرح الحضارة النَّازف: تدمير المتحف القوميِّ في السُّودان”، وأبان فيه أنَّ الَّذي يحدث في السُّودان ليس مجرَّد حرب على السُّلطة، بل جريمة في حقِّ الحضارة، جريمة ترتكب أمام أعين العالم، الَّذي يراقب بصمت، بل ويسهم البعض في إشعالها، وما يؤلم أكثر، أن تمحى آثار هذا البلد العظيم، بينما أهل السُّودان يواجهون القتل والتَّشريد والجوع، ويُترك وطنهم فريسةً للصِّراعات وأطماع العابثين.” والسُّؤال الَّذي يتبادر إلى الذِّهن في إطار الكتاب موضوع مراجعتنا، أين دور اليونسكو من الدَّمار والنَّهب الَّذي يحدث للمقتنيات الأثريَّة في السُّودان، الَّتي يعتبرها الكواري ليست “ملكًا لدولة واحدة، بل أمانةً في أعناق كلّ من يعرف قيمتها”؟ ويدفعني هذا السؤال الاستنكاري إلى إعادة النَّظر في ظلم ذوي القربى، الَّذين ضيَّعوا فرصة نادرة لأهل الثَّقافة العربيَّة، ليعيدوا فعَّاليَّتهم في تسير الشَّأن الثَّقافيَّ الدَّوليَّ، ويجدوا موقعهم المستحق داخل فضاءات المكتب التنفيذي لمنظمة اليونسكو، ولذلك نلحظ أن لسان العقلاء منهم يقول، ولا سيما المتضررون من أهل السودان: “أضاعوه وأيَّ فتًى أضاعوا.”
وفي الختام، الكتاب جدير بالقراءة والتَّدبُّر لما فيه من الدُّروس والعبر، الَّتي تعكس من طرف صراع الإرادة والعزيمة الَّذي أهلَّ الدبلوماسي حمد بن عبد العزيز الكواري وصاحب الكيل الوافر في الثقافة؛ لخوض الجولة الأخيرة من انتخابات الأمين العامِّ لمنظَّمة اليونسكو، ومن طرف آخر يوثِّق لسلوك الخيانة والقدر، الَّذي أفقد العرب فرصةً نادرةً، كان من المأمول أن تعزِّز حضورهم الثَّقافيَّ في باحات المنظَّمات الأمميَّة. كنت أتمنَّى أن يعزِّز المؤلِّف سرديته التُّوثيقية بمجموعة من الصُّور التذكارية لزياراته الميدانية؛ لأنَّ الكتاب إلى جانب توثيقه لمعالم الطَّريق إلى اليونسكو وظلم ذوي القربى، يشكِّل ضربًا فريدًا من ضروب أدب الرِّحلات الماتع والمشوِّق بغرائب أمصاره وعجائب أسفاره.