*داء السودان الذي يأكل أبناءه حين يرفع الضحية سيف الجلاد*

لماذا لا يتعظ أبناء دارفور من هذا الداء الذي فتك بالسودان؟ لماذا بعد كل ما جرى من مآسٍي ومجازر ونزوح ودمار، لا يزال بعضهم يحمل في صدره بذور العنصرية التي مزقت الوطن وأهلكت أهله؟ كأن التاريخ لا يعنيهم، وكأن الدم الذي سال لم يكن دمهم أيضًا. العنصرية ليست حكرًا على أحد، لكنها في هذه الحرب كشفت وجهها الحقيقي داخل من ظنناهم أكثر الناس وعيًا بالظلم وأدرى الناس بمراراته.
مصطلح “الجلابة” ليس سوى قناع جديد للعنصرية المقنّعة، سلاح خبيث يُستخدم لتفتيت ما تبقى من وطنٍ مريض. حين نغادر السودان لا يسألنا أحد إلى أي قبيلة ننتمي، ولا من أي جهة جئنا، نحن فقط “سودانيين”. لكن ما إن نعود إلى أرضنا حتى نُقسم أنفسنا، نُجزّئ الخراب، ونُعيد رسم الحدود بالدم، وكأننا لم نتعلم شيئًا من نيران الماضي عندما سقطت الفاشر، أكاد أجزم أن كل سوداني محترم تألم كما لو أن مدينته هي التي سقطت. لم تكن الفاشر مجرد مدينة، كانت قلبًا نابضًا في جسد السودان. تألم الناس لفقدان الإخوة والآباء والأطفال، تألموا لجيوش الشرف التي قاتلت دفاعًا عن فكرة الوطن. لكن وسط هذا الحزن العظيم، خرجت أصوات تغني على لحن الانقسام. خرجت ألسنة تتحدث بلسان الكراهية، تبرر السقوط وتضحك على الجراح، وكأن الدم الذي نزف هناك لم يكن سودانيًا. كيف لعقل يدّعي الوعي أن يقول: “تدخلت قواتنا لتحمي الجلابة فماتوا”؟ كيف يمكن أن ينطق بهذا عقلٌ سوي؟ هذا ليس وعيًا، هذا مرض متجذر في النفوس، مرض عنصري تحوّل إلى قناعة فكرية تُبرر الكراهية باسم المظلومية.في هذه الحرب، تبيّن بما لا يدع مجالًا للشك أن بعض أبناء دارفور – لا كلهم – كانوا أكثر عنصرية من أي مكوّن آخر في السودان. الحرب لم تُنتج هذه العنصرية، لكنها كشفتها، فضحتها، وعرّت الخطاب الزائف الذي ظل يختبئ خلف شعارات الحقوق والعدالة. رأينا من كان يصرخ ضد الظلم بالأمس، يمارس ظلماً مضاعفًا اليوم. رأينا من كان يدّعي النقاء يتحول إلى محرّض يوزع الكراهية واللوم على الشماليين والوسط. تحوّل بعضهم من ضحايا الأمس إلى أدوات تحريض اليوم، يحملون لغة المليشيا نفسها، ويبررون القتل طالما أن الضحية من “الجلابة” أو من “المركز”. هكذا سقطت الأقنعة وسقطت الشعارات، واتضح أن العنصرية لم تكن رد فعل على الظلم فحسب، بل كانت إيمانًا مزيفًا متجذرًا في اللاوعي أبناء دارفور اليوم يحاولون دسّ السم في العسل، يتحدثون بوجه المظلومية لكنهم يزرعون بذور الفتنة. يكتبون على صفحات التواصل بلغة الاستنارة الزائفة، لكن خلف السطور نزعة تقسيم وكراهية . هؤلاء الذين يوجّهون سهامهم إلى الشمال والوسط باسم “العدالة التاريخية” ينسون أن النار التي يشعلونها ستأكل دارفور أولًا، قبل غيرها. فهم لم يفهموا بعد أن من يستثمر في الكراهية لا يحمي أرضه بل يحفر قبره بيده.
لقد صار واضحًا أن المرض الذي فتك بالسودان لم يكن الجهل ولا الفقر، بل تلك العنصرية التي تنخر فينا منذ عقود، وتأخذ شكلًا جديدًا كلما ظننا أننا شُفينا منها. أبناء دارفور الذين ذاقوا المرارات كان يجب أن يكونوا أول من يقاومها، لا أول من يكرسها. من يتحدث اليوم بخطاب الكراهية هو امتدادٌ لحميدتي، وإن لم يحمل سلاحًا، لأنه يفتح الطريق أمام مليشيا جديدة لتولد من رحم الكراهية ذاتها.لقد آن الأوان أن نواجه الحقيقة بشجاعة: لا يمكن أن نبني وطنًا نزيهًا بعقول مريضة. لا يمكن أن نحلم بعدالة وحرية ونحن نحاكم بعضنا بالهوية. يجب أن يكون هناك عقلاء، عقلاء من كل الجهات، يعيدون الأمور إلى نصابها، يوقفون هذا الجنون الجمعي. الشمال تألم لما جرى في الغرب، والغرب تألم لما جرى في تمبول والسريحة والهلالية وغيرها. الوطن كله ينزف من جرح واحد، فكيف نغرس فيه سكاكين إضافية بأيدينا؟
لكن رغم كل هذا السواد، هناك من رأي ضوء يلمع أنا شخصيًا شعرت بالفخر والدهشة حين رأيت المقاتلين السابقين، أولئك الذين كانوا بالأمس خصوماً في الميدان، يقفون اليوم في خندق واحد، كتفًا إلى كتف، من دارفور والجزيرة والنيل الأبيض والخرطوم والشمال، يوحّدهم هدف واحد: إنقاذ ما تبقى من هذا الوطن الجريح. قائدهم من الغرب ونائبه من الوسط، يقاتلان تحت علم واحد، يمتطون ذات العربية القتالية، ينامون على التراب ذاته، ويقتسمون اللقمة والرصاصة والحلم ذاته. لا أحد يسأل الآخر من أين جاء، ولا إلى أي قبيلة ينتمي، لأن النار التي أمامهم واحدة، والموت الذي يطاردهم لا يفرّق بين لهجة ولهجة حين يفقدون أحد رفاقهم، ينهار الجميع في البكاء، لا يسألون إن كان من الشمال أو من الغرب، بل فقط: “كان سودانيًا شجاعًا”. وحين يُصاب أحدهم، يتهافتون لإنقاذه، كلهم بدم واحد وإيمان واحد. هؤلاء هم السودان الحقيقي، لا من يختبئون خلف الشاشات ويشعلون حرائق العنصرية بالكلمات. هؤلاء الرجال الذين وحّدهم الألم والكرامة علمونا درسًا أعظم من كل الخطب السياسية – أن الدم لا يفرّق بيننا، وأن من أراد مستقبل السودان، فعليه أن يتعلم من خندقهم لا من صفحات التحريض.
الوطن لا يُبنى على الجثث ولا بالرطانة، ولا يُحمى بالقبيلة، بل بالضمير الذي يرى في الآخر امتدادًا له لا خصمًا له. علينا أن نتعظ قبل أن نُبتلع جميعًا. ألم تكفِ دارفور لتكون الدرس الأكبر؟ ألم تكفِ الخرطوم لتكون المرآة التي نرى فيها نتائج صمتنا الطويل؟ من لا يتعظ اليوم لن يجد وطنًا يتعظ فيه غدًا. داء العنصرية هو الذي دمّر السودان، وإن لم نقطع جذوره الآن، فلن تبقى في هذه الأرض سوى رماد أمة كانت اسمها السودان.
حدثني أحد أقربائي بعد تحرير مدينة مدني، قال لي إنه التقى هناك بأحد أبطال القوات المشتركة، شاب برتبة ملازم، لم تمضِ أيام قليلة حتى صارا أخوة. جمعتهما المعارك والهمّ الواحد والضحكات القصيرة التي تختلسها البنادق بين جولات النار.
كانا يتعاهدان على الحياة بعد الحرب، يقول له مازحًا:
“يا أخوي بعد الحرب بزوجك أختي، وأنا بتزوج أختك.”
فيضحكان ويشدان على أيادي بعضهما كمن يقطع وعدًا أمام الله.
لكن الحرب لا تحفظ الوعود.
شاءت الأقدار أن يستشهد الملازم في معارك تحرير مدني.
ولم أرَ في وجه قريبي وجعًا كهذا من قبل؛ كان صامتًا، منكسرًا، ينظر إلى الأرض وكأنه يبحث عن روحه الضائعة هناك في ساحة القتال. قال بصوتٍ مبحوح:
“فقدت أخوي… يا ريت أنا مت معاه.”

أخٌ لم تلده أمه، جمعته به البنادق، وفصل بينهما الموت.
اثنان من جهتين مختلفتين، التقيا على إنسانية واحدة، على وطنٍ واحدٍ، وعلى دمٍ واحدٍ.

فعن أي عنصرية تتحدثون؟

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole