*مناوي من خطاب الغفلة إلى هندسة الدم*

كيف خذلت القيادة الفاشر، ولماذا لا يحق لها طلب دمٍ جديد
لن نبدأ من الخطاب، بل من الجثامين.
من الحقيقة التي يحاول كثيرون القفز فوقها هناك جثامين الآن في العراء
جثامين لمقاتلين من القوة المشتركة، من أبناء دارفور، من شباب الإقليم، ما زالت ملقاة في الطرقات وعلى أطراف المدن، تنهشها الطيور الجارحة وتعبث بها الكلاب الضالة، بلا دفن، بلا أسماء، بلا بيانات رسمية تعترف بوجودها.

هذه ليست لغة انفعال، ولا صورة رمزية.
هذه وقائع ميدانية يعرفها أهل الفاشر ويشمّون رائحتها.
وأي قائد لا يبدأ من احترام الموتى، لا يملك الحق الأخلاقي في مخاطبة الأحياء.

دارفور تنزف.
والفاشر لم تسقط فجأة، ولم تُؤخذ على حين غفلة.
سقطت بالتقسيط حصار طويل، مجاعة، قصف، إستغاثات لا تُحصى، وخذلان رسمي واضح.
أكثر من خمسمائة يوم والمدينة تموت ببطء، والمقاتلون يبحّ صوتهم طلبًا للنجدة، وأنت حاكم الإقليم.

أين كنت؟
وأين كانت الخطة؟
وأين كانت القيادة حين كان الموت يُدار بالساعة؟

اليوم بعد أن سقطت المدينة، وبعد أن مات أغلب من فيها، وبعد أن فقدت القوات التي كانت تدافع عنها نصفها بين قتيل وأسير ومفقود، يخرج الخطاب متأخرًا، مرتبكًا، بلا مراجعة ولا اعتذار ولا اعتراف بحجم الجريمة السياسية.
يخرج محمّلًا بأخطر ما يمكن أن يُلقى في لحظة انهيار لغة تعبئة قبلية

وهنا يجب أن يُقال الكلام بلا مواربة

هل دارفور ملك لقبيلة واحدة حتى تُطالَب بالمزيد من الدماء؟
من منحك هذا التفويض لتتحدث باسم إقليم كامل، بينما الإقليم فيفساء بشرية واسعة، تسكنه قبائل كثيرة، وناس لا يفهمون لهجتك، ولا يرون أنفسهم في خطابك، ولا يثقون في نواياك؟

دارفور ليست قبيلة.
دارفور ليست لهجة.
دارفور ليست ساحة حشد.

حين تخاطب الإقليم بلغة لا يفهمها أغلب أهله، فأنت لا تمارس خصوصية ثقافية، بل تمارس إقصاءً سياسيًا
وحين تطالب الناس بالموت باسم القربى والدم، فأنت لا تدافع عنهم بل تعيد إنتاج قيح العنصرية الذي دمّر السودان إنسانًا إنسانًا.

العنصرية هي التي أوصلتنا إلى هذا المأزق.
هي التي جعلت الإنسان يُقتل بلون بشرته.
هي التي صنعت المليشيا ، ثم أطلقت لتنهش البلاد.
وأي خطاب يعيد هذا المنطق، مهما كان قائله وتاريخه، يجب رفضه جملةً وتفصيلًا.

منذ اليوم الذي خذلت فيه الفاشر، خرجت – عمليًا – من مربع القيادة.
ليس بقرار خصومك، بل بحكم الوقائع.
سقطت المدينة وأنت حاكمها.
مات أهلها وأنت المسؤول سياسيًا وأخلاقيًا عنها.

والأسوأ أن الموت لم يتوقف.
فهناك حتى الآن جثامين في العراء.
لم تُدفن.لم تُحصَي .لم تُعلَن.
أي قائد هذا الذي يترك جنوده بلا قبر؟
ومن يعجز عن دفن قتلاه، لا يملك الحق في طلب قتلى جدد.

ثم نصل إلى الجرح الأكبر الذي تحاول الخطابات القفز فوقه اتفاق سلام جوبا
اتفاق لم يكن صورة أو مكسبًا دعائيًا، بل التزامًا قانونيًا، وعلى رأسه الترتيبات الأمنية ودمج القوات.

ماذا حدث؟
تباطؤ.
تسويف.
ترك المقاتلين في فراغ قانوني قاتل.

سنوات مرت ولم تُدمج القوات.
لم تُستخرج حقوقهم.
لم تُؤمَّن أسرهم.
وحين اندلعت الحرب، يوجد مقاتلين يقاتلون بلا غطاء، بلا ضمانات، بلا استحقاقات.

واليوم، بدل مواجهة هذا الفشل، يجري الهروب إلى خطاب قبلي، وكأن المشكلة في الناس لا في القيادة.

اللافت – وربما الأكثر إدانة – أن الذين يهاجمون الخطاب اليوم هم أبناء الإقليم أنفسهم وإبناء الكيان الذي مات شبابه .
هم من كانوا يرون فيك بالأمس بطلًا.
لكنهم رأوا بأعينهم كيف ذهب أخِيار شبابهم، وكيف تُركوا بلا حماية، وكيف صار الدم رخيصًا.

ماذا فعلت لقتلى جيشك بصفتك حاكم الإقليم والمشرف على القوة المشتركة؟
ماذا فعلت للمشردين وأسرهم؟
ماذا فعلت للمفقودين؟
وماذا فعلت لاستحقاقات من ماتوا وهم يقاتلون تحت رايتك؟

هل تظن أن ذاكرة الشعوب تنسى؟
هل تعتقد أن أمًّا لم تستلم حتى جثمان ابنها ستثق بك؟
هل تظن أن القبيلة ستمنحك أبناءها مرة أخرى لتحرقهم؟

ما تفعله اليوم يعيد إنتاج سياسة حميدتي نفسها.
هو أحرق الرزيقات حين انتهى منهم
وأنت اليوم، بخطابك هذا، تحرق الزغاوة وتدفعهم إلى محرقة جديدة، بأسم الدفاع عن النفس.

صمتَّ دهرًا…
وحين نطقت، نطقت كفرًا سياسيًا وأخلاقيًا.

أما شلة بورتسودان، فلنكن واضحين
هم لا يحبونك عشان سواد عينيك ، ولا يعنيهم الإقليم، ولا يهمهم الدم.
إن لم يكونوا أنجبوا حميدتي بيولوجيا ، فقد ربّوه واحتضنوه وفتحوا له الطريق.
واليوم يريدون نقل الحرب إلى إقتتال قبلي حتى يضيع القاتل في ومشعل النيران

إذا كان للدم معنى، فليكن أولًا سؤال الوقائع
قبل أي نداء جديد، افتحوا الملفات لا الميكروفونات.
اسألوا قادة العمليات الذين خرجوا أحياء من الميدان أين فُقد القرار؟ متى انقطع الإمداد؟ من أوقف الدمج؟ ومن ترك الجنود بلا غطاء؟

أسأل الجنرال جمعة حقار، لا بوصفه اسمًا، بل شاهدًا ميدانيًا يعرف أن القيادة تُقاس بخط الإمداد، لا بخطاب التعبئة؛ وبخريطة الانتشار، لا بخريطة القبائل؛ وبحماية الجندي حيًا وتكريمه ميتًا، لا بطلب دمٍ إضافي

ضعوا على الطاولة أسئلة لا تهرب

أين سجلات القتلى والمفقودين؟
أين أوامر الإخلاء والدفن؟
أين تقارير الحصار الخمسمائة يوم؟
أين محاضر تنفيذ الترتيبات الأمنية؟
ومن عطّل الدمج حتى انفجرت الحرب؟

هذه ليست أسئلة خصومة، بل إستحقاقات حكم
ومن يعجز عن الإجابة عليها، لا يملك تفويضًا أخلاقيًا ولا سياسيًا لطلب تضحية جديدة.

التحقيق لا يرفع الصوت، بل يثبت الوقائع.
والوقائع تقول الميدان كان أصدق من الخطاب والرجال الذين تريّسوا تحت النار أعرف من الذين تريّسوا خلف المنصات.

الخلاصة واضحة
الدم يُصان بالحكمة والمحاسبة، لا بالتعبئة والإنكار
ومن لم يحتمل ميزان التحقيق، لا يصلح لميزان القيادة.

وأنت – بوعي أو بغير وعي – تنفذ أجندتهم.

دارفور اليوم، رغم الجراح، وحّدت وجدان السودانيين.
والناس فهمت أخيرًا أن الجسد الواحد إذا اشتكى، تداعى كله.

لذلك، أي خطاب يعيد تقسيم الناس خيانة لهذه اللحظة.
وأي دعوة للموت بلا رؤية تهور يجب إيقافه.

في هذه المرحلة الحرجة، لا يجب أن يُترك القرار لشخص واحد.
كفى مقامرة بدم الإقليم.
كفى استخدامًا للقبيلة ستارًا للفشل.

دارفور لا تحتاج زعيم قبيلة.
تحتاج حاكم إقليم.
ولا تحتاج خطيبًا.
تحتاج قائدًا يتحمل المسؤولية كاملة…
أو يملك شجاعة الانسحاب.

ومن خرج من مربع القيادة بالخذلان
لا يعود إليه بالخطب.

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole