في الفاشر، لم تكن الحرب حدثًا طارئًا، بل كانت امتحانًا يوميًا للإنسان وهو يُجرَّد من كل شيء إلا كرامته. هناك، لم يُقاس الصمود بعدد الطلقات، بل بعدد الأيام التي قاوم فيها الرجال الجوع والحصار دون أن يرفعوا راية الاستسلام. الفاشر لم تسقط، لأنها ببساطة لم تركع، رغم أن العالم كله جلس متفرجًا.
شهداء الفاشر لم يموتوا في لحظة خاطفة، بل خاضوا معركة طويلة مع الموت. معركة ضد الجوع الذي صار سياسة، وضد الحصار الذي صار أداة، وضد الصمت الذي صار شريكًا كامل الدسم في الجريمة. رجال قاتلوا وصبروا، لا لأنهم لا يخافون الموت، بل لأنهم يعرفون أن الهروب منه أحيانًا يكون خيانة للمدينة، وللتاريخ، وللأجيال القادمة.
في الفاشر، صار الصبر فعل مقاومة. صار الوقوف في المكان الصحيح بطولة خالصة. لم يكن هناك ترف الخيارات، ولا مساحة للمناورة. إما أن تقف، أو تُمحى. إما أن تدافع عن المدينة، أو تُترك لتُنهش حتى العظم. وهنا ظهر معدن الرجال الحقيقي.
عبود آدم خاطر لم يكن اسمًا عابرًا في هذه الملحمة. لم يكن مجرد مقاتل سقط في ساحة معركة. كان حالة كاملة، رمزًا للشجاعة والبسالة حين تُنزع عنها كل الزينة. كان من أولئك الرجال الذين لا يحتاجون إلى خطب ولا بيانات ليُثبتوا من هم. يكفي أنهم بقوا، حين غادر الآخرون. يكفي أنهم صمدوا، حين خذلت السياسة كل القيم. عبود صبر على الجوع كما يصبر الأحرار، وقاتل وهو يعرف أن المعركة غير متكافئة، لكنه آمن أن الشرف لا يُقاس بميزان القوة، بل بثبات الموقف.
هذه الحرب لم تكن عمياء. لم تضرب عشوائيًا. كانت تعرف تمامًا من تريد أن تقتله. كانت تذهب إلى خِيرة الرجال، إلى الذين يشكلون العمود الفقري للمدن. لأن المدن لا تسقط حين تُقصف بيوتها، بل حين يُقتل رجالها الشجعان. لذلك كان استهداف الفاشر استهدافًا للمعنى، قبل أن يكون استهدافًا للجغرافيا.
في الفاشر، كان الجوع أداة قتل بطيئة. وكان الحصار خطة مُحكمة. وكان الانتظار موتًا آخر. ومع ذلك، لم تنكسر المدينة. لم تُرفع الرايات البيضاء. لم تتحول الفاشر إلى مدينة خائفة. لأن رجالها قرروا أن يدفعوا الثمن كاملًا، حتى لو كان الثمن حياتهم.
الصدق يفرض علينا أن نقول الحقيقة بلا مواربة: ما جرى في الفاشر ليس نتيجة جانبية للحرب، بل جريمة مكتملة الأركان. جريمة حصار وتجويع واستهداف متعمد، وصمت دولي مريب، وتواطؤ أخلاقي فاضح. والوفاء يفرض أن لا نختصر الشهداء في عبارات تعزية باردة، ولا نحول دماءهم إلى مناسبة موسمية للبكاء ثم النسيان.
وعدنا لشهداء الفاشر ليس وعدًا عاطفيًا، بل عهدًا ثقيلًا. عهد أن لا تُنسى أسماؤهم، وأن لا تُغلق ملفاتهم، وأن لا يتحول صمودهم إلى قصة تُروى دون مساءلة. وعد أن تبقى الفاشر في قلب السؤال السياسي والأخلاقي، لا في هامش الأخبار العاجلة.
شهداء الفاشر، وعلى رأسهم عبود آدم خاطر، لم يطلبوا شيئًا من هذا العالم. لم يطلبوا تعاطفًا، ولا بيانات إدانة، ولا مؤتمرات قلق. طلبوا فقط أن لا تُترك مدينتهم للموت. أن لا يُترك الجوع ليكمل ما عجز عنه الرصاص. لكنهم، حين خُذلوا، لم ينهاروا. وقفوا، وصبروا، وقاتلوا، وسقطوا وهم على حق.
الهزيمة الحقيقية ليست في موت هؤلاء الرجال. الهزيمة الحقيقية أن يعتاد العالم مشهد المدن المحاصرة. أن يتحول الجوع إلى خبر عابر. أن يُقتل الشجعان ثم يُطلب منا الصمت باسم “التوازن” و“الحياد”. الحياد في وجه الجريمة خيانة، والصمت في وجه القتل مشاركة.
الفاشر اليوم ليست مجرد مدينة منكوبة، بل شهادة حيّة على عظمة الإنسان حين يُجرد من كل شيء إلا كرامته. شهادة على أن الشجاعة لا تموت، حتى لو قُتل الشجعان. وأن المدن التي تُنجب رجالًا مثل عبود آدم خاطر لا يمكن أن تُهزم، مهما طال الحصار.
المجد لشهداء الفاشر،
للذين قاتلوا وصبروا حتى النهاية،
للذين علّمونا أن الرجولة موقف،
وأن الوفاء لا يكون بالكلام، بل بعدم النسيان.
والعار… كل العار،
لحربٍ لا تنتصر إلا على الجوع،
ولعالمٍ رأى الفاشر تُذبح،
واختار أن ينظر في الاتجاه الآخر.



