*كيف انهار السودان بصمت د التوم حاج الصافي .خبير العلاقات الدولية*

.

لم يكن الخامس والعشرون من أكتوبر عام 2021 محطةً لبدء مرحلة جديدة كما حاول البرهان تقديمه، بل كان البداية الصريحة لكارثة سياسية وأمنية جرى التحضير لها في الغرف المغلقة. فقد تحرك قائد المؤسسة العسكرية مدفوعاً بطموح شخصي غير محسوب، ومسنوداً بشبكة معروفة من
الحركة الإسلامية السودانية
ومعهم «أرامل الإنقاذ» الذين فقدوا امتيازاتهم، و«أيتام الموائد» الذين عاشوا على فتات النفوذ القديم. ومنذ تلك اللحظة، لم يعد السودان أمام فرصة انتقال، بل أمام انحدار منظم نحو الفوضى تُدار خيوطه من خارج مؤسسات الدولة، ويُنفّذ على شكل تنازلات متتابعة أعادت الماضي بكل أعبائه.

لم يكن الإفراج عن رموز النظام السابق بين الرابع والثاني والعشرين من نوفمبر 2021 مجرد إجراء إداري. كان العلامة الأولى على أن انقلاب البرهان لم يكن خطوة معزولة، بل بوابة لإعادة تدوير نفوذٍ فقد شرعيته منذ سقوط نظام البشير. كان ذلك إعلاناً غير مكتوب بأن مرحلة “ما بعد 2019” تُطوى بهدوء، وأن مسار العدالة الذي انتظره السودانيون يتراجع أمام ترتيبات جديدة تُصاغ بعيداً عن إرادتهم.

ومع دخول ديسمبر من العام ذاته، عادت الآلة الإعلامية القديمة إلى الواجهة، ليس بضجيج، بل بصمت يشبه طرقات خفيفة على بابٍ يُعاد فتحه. في بداية 2022 ترسخ المشهد أكثر: تغييرات هادئة داخل وزارات مركزية، عودة وجوه معروفة إلى مواقع القرار، وحضور غير معلن—لكن محسوس—لمراكز نفوذ ظلت تعمل لسنوات في الظل.

ثم جاءت لحظة التاسع من مارس لتكون الأكثر وضوحاً: تعليق لجنة إزالة التمكين، إحدى آخر أدوات الانتقال نحو دولة القانون. وعندما صدر قرار حلّها في الثاني عشر من مايو، بدا وكأن الدولة تُسحب تدريجياً من مسارها الإصلاحي وتُعاد إلى دائرة نفوذٍ لا يخفي طموحاته في استعادة السيطرة بكل أساليب الماضي.

ومع مرور الشهور، أصبحت العودة الواسعة لشبكات رجال الأعمال المرتبطين بالمنظومة القديمة علامة إضافية على انحدار الدولة نحو ماضٍ ظنّ السودانيون أنهم تجاوزوه. وفي الثاني من ديسمبر 2022، جاء خطاب البرهان متطابقاً تقريباً مع خطاب الإسلاميين، ليس فقط في اللغة، بل في الروح السياسية التي حملها.

ثم جاء عام 2023 ليكشف أن “السقوط الهادئ” لم يعد مجرد توصيف مجازي. العملية الضرورية لإصلاح المؤسسة العسكرية توقفت دون تفسير مقنع، رغم أنها كانت شرطاً أساسياً في كل مبادرات الانتقال السياسي. وعندما اندلعت الحرب في الخامس عشر من أبريل، ظهر السودان دولة تقف على أرضية بالغة الهشاشة، نتيجة شهور طويلة من التردد وتقديم التنازلات التي سمحت لنفوذ خارج الدولة بأن يصبح جزءاً من قرار الدولة.

وخلال محادثات جدة بين مايو ويوليو، فشلت كل الهدن التي وُقّعت. لم يكن ذلك مصادفة؛ فقد بدا الموقف الحكومي أقرب إلى رؤية تيار يفضّل استمرار الحرب على قبول تسوية تحدّ من نفوذه. وفي أكتوبر من العام نفسه، جاء خطاب البرهان ضد المجتمع الدولي ليضيف دليلاً جديداً على عمق التأثير الذي بات يوجّه القرار السياسي من وراء الستار.
،
ومع دخول عام 2024، لم يعد نفوذ، الإسلاميين بحاجة إلى قراءة خلف السطور. الاجتماعات التنظيمية تُعقد علناً، والكوادر تظهر في مواقع متقدمة، بينما تبدو القيادة العسكرية مترددة—أو غير راغبة—في رسم مسافة ضرورية بينها وبين هذا النفوذ الذي أصبح يحدد الكثير من اتجاهات الدولة. وفي يونيو، ظهر ذلك بوضوح في الموقف الرافض لمبادرات IGAD والاتحاد الأفريقي، موقفٍ بدا أكثر انسجاماً مع رؤية سياسية مؤدلجة منه مع جهود دولة تبحث عن مخرج من حرب تجاوزت حدود الكارثة.

لكن أخطر ما واجهه السودانيون خلال هذا الانحدار لم يكن في القرارات وحدها، بل في الطريقة التي جرى بها ليُّ ذراعهم ليرتبط مصير بلدهم بطموحات تيار سياسي مزروع داخل المؤسسة العسكرية. فجأة وجد المواطن نفسه أمام سؤال وجودي:
مع من نقف؟
مع جيش يفترض أنه مؤسسة مستقلة، لكنه يتحدث بلسان أيديولوجي واضح؟ أم مع قوى أخرى قدمت نفسها كبديل، لكنها ارتكبت من الأخطاء ما يجعلها بعيدة عن براءة الموقف؟

فالضفة الأخرى أيضاً ليست في وضع مريح. فالقوة المسلحة التي تمثلها
قوات الدعم السريع
ارتكبت بدورها جرائم مروعة بحق المدنيين، ولم تكن أكثر التزاماً بقيم الدولة أو القانون. وما وقع من انتهاكات في مناطق عديدة أثبت أن القسوة لم تكن حكراً على طرف واحد، وأن العنف حين يتحرر من الضوابط يتحول إلى كارثة على الجميع. أما من يستغلون
القوات المسلحة السودانية
لتبرير كل خطأ، فهم أيضاً شركاء في الأزمة، لأنهم حوّلوا الجيش إلى أداة صراع لا إلى مؤسسة وطنية.

وهكذا، تتوزع المسؤولية على الضفتين، بينما يقف السودان كله على حافة هاوية صنعها سباق القوة لا مشروع الدولة. المدنيون وحدهم في منتصف الجرح، يدركون أن كلا المتقاتلين—لم يكونا بحال من الأحوال حماة حقيقيين للوطن.

إن ما يجري ليس سقوطاً صاخباً ولا مفاجئاً. إنه سقوط هادئ، يحدث طبقة بعد طبقة، قراراً بعد قرار، وتنازلاً بعد آخر، حتى بات السودان يعبر أخطر لحظاته دون أن يملك بوصلة واضحة.
ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه اليوم بعمق أكبر:
هل لا يزال هناك من يرغب—أو يقدر—على إيقاف هذا السقوط؟

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole