توطئة
استرعى انتباهي الاهتمام الواسع من قِبل الإعلام المحلي والإقليمي والدولي بتمرد “أولاد قمري” على القوات المسلحة في مدينة دنقلا. فقد خصصت بعض الصحف الإلكترونية، مثل دارفور 24، ومداميك، ومنصة الترا سودان الإخبارية، وسودان تريبيون، وموقع روسيا اليوم (RT) بالعربية، مقالات وتحليلات تناولت خلفيات هذا التمرد، الذي وقع في 21 نوفمبر 2025. وقد دفعتني هذه الحادثة، وتواتر الأخبار المتعلقة بها، إلى طرح جملة من التساؤلات الاستفهامية: مَنْ أولاد قمري؟ وما أصلهم؟ وما دوافع تمردهم على القوات المسلحة؟ وما الدروس والعِبر التي يمكن استخلاصها من هذه الواقعة؟ تجيب الفقرات التالية عن هذه التساؤلات، مستندةً إلى ما نُشر في الصحافة الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي، بعد التثبت من صدقية بعضها والاعتماد على المعلومات المشهورة والمتواترة فيها.
خلفية النشأة والتكوين
تشير المصادر الإلكترونية إلى أن مجموعة “أولاد قمري” ظهرت في منتصف العقد 2010، فتكوّنت نواة المجموعة من شقيقين توأمين، يُدعيان الحسن والحسين، وعدد قليل من معاونيهما ممن خبروا دروب التهريب بين شمال السودان وليبيا. وارتبط اسم المجموعة بعائلة قمري، التي ينتمي إليها الشقيقان. وقد انخرط في صفوف هذه المجموعة أيضًا بعض الأفراد ذوي الخلفيات العسكرية والأمنية ممن فصلوا سابقًا من الجيش والشرطة خلال حقبة حكومة الإنقاذ (1989-2019)، ما أكسبها مهارات قتالية وتنظيمية إضافية. وتشير بعض التقارير إلى تورط مجموعة أولاد قمري في تهريب الأسلحة والمخدرات والبشر عبر الحدود الصحراوية، مستغلة هشاشة الرقابة الأمنية في تلك المناطق. وقد اتهمت في بدايتها بنهب بعض السيارات التي كانت تنقل الذهب من المناجم في عمق الصحراء أو القادمة من ليبيا. وانخرطت المجموعة لاحقًا في أنشطة التعدين عن الذهب في منطقة المثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر، مما وفر لها موردًا ماليًا إضافيًا عزز من نفوذها المحلي.
وبعد ثورة ديسمبر 2018 وتراجع قبضة الدولة الأمنية في السنوات الانتقالية، ظهرت هذه المجموعة إلى العلن بأسلحتها وسياراتها المجهزة دون رادع فعلي. ولم تعد عملياتها تقتصر على الكرّ والفرّ، بل أصبحت تسيطر على طرق ومناطق نائية مستفيدة من الفراغ الأمني. وازداد تغلغها في المجتمعات المحلية الريفية بين دنقلا والدبة وبعض القُرى في أقصى الشمال. وبهذه الكيفية تحولت تلك المجموعة تدريجيًا إلى ميليشيا منظمة ذات تمويل وتسليح جيد، وتمكنت خلال سنوات قليلة من زرع الخوف في تلك الأنحاء التي لم تكن معتادة على هذا النمط من الجريمة المنظمة.
علاقة أولاد قمري بالجيش السوداني
تشير بعض المصادر إلى أن مجموعة أولاد قمري أعلنت تحالفها مع القوات المسلحة السودانية منذ منتصف عام 2014، حيث نُشرت عناصرها آنذاك في محور الولاية الشمالية تحت مسمى كتيبة الاستطلاع الاستراتيجية. وربما جاء ذلك التنسيق في سياق جهود الجيش لمكافحة أنشطة التهريب وتأمين الحدود الصحراوية الشمالية. بعد اندلاع حرب أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، ازداد اعتماد القيادة العسكرية على الميليشيات المحلية لتعزيز جبهاتها، خاصة في المناطق التي لا يوجد فيها جيش نظامي كبير، ومُنحت عناصر المجموعة أرقام عسكرية رسمية، ما يشير إلى وضع شبه نظامي يجعلهم نظريًا خاضعين لقانون القوات المسلحة وأوامرها. وبالفعل انتشرت قوات أولاد قمري في مدن متفرقة من الولاية الشمالية خلال تلك الفترة، ولا سيما في المناطق الصحراوية والممرات الحدودية حيث تخصصت في الاستطلاع والمراقبة. وقد وصفت رسميًا بأنها كتيبة استطلاع تتبع قطاع دنقلا العملياتي في الجيش السوداني، وكان دورها المعلن هو القيام بمهام استطلاعية وتأمين الطرق الصحراوية وإسناد القوات النظامية في تلك الأنحاء. خلال فترة تحالفها مع الجيش، شاركت المجموعة – بشكل مباشر أو غير مباشر – في العمليات العسكرية ضد قوات الدعم السريع. وأفادت بعض التقارير المحلية أن أفرادًا منها أُرسلوا للقتال في معارك بولاية شمال كردفان إلى جانب قوات درع السودان (أبوعاقلة كيكل). ورغم هذا الدور القتالي الموالي للجيش، برزت اتهامات عديدة ضد أفراد المجموعة بارتكاب انتهاكات بحق المدنيين في مناطق نفوذهم؛ حيث نصبوا حواجز تفتيش داخل المدن الشمالية وقاموا بابتزاز المارة ونهب ممتلكات بعضهم تحت ستار التعاون الأمني. الأمر الذي أثار استياء الأهالي المحليين، الذين اشتكوا من تعديات أولاد قمري وطالبوا بوضع حد لنشاط الميليشيات الخارجة عن القانون.
من الحليف إلى الخصم: ظروف التحول والتمرد
مع استمرار الحرب واتساع رقعة الفوضى الأمنية، بدأت تظهر بوادر توتر بين قيادة الجيش ومجموعة أولاد قمري. أدركت القيادة العامة للقوات المسلحة أن ترك الميليشيات الحليفة دون ضوابط صارمة قد يؤدي إلى تكرار تجربة قوات الدعم السريع التي خرجت عن السيطرة. لذلك أصدر القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في منتصف عام 2025 قرارًا بوضع جميع القوات المساندة للجيش تحت إمرة القيادة العسكرية المباشرة، بهدف تعزيز الضبط والسيطرة على تلك التشكيلات شبه النظامية. في هذا الإطار، وجّهت لجنة أمن الولاية الشمالية تعليمات صريحة إلى كتيبة الاستطلاع المعروفة بأولاد قمري بضرورة الاندماج في هيكل اللواء 75 مشاة التابع للفرقة العسكرية في دنقلا. بمعنى آخر، طُلب من أفراد المجموعة أن ينخرطوا رسميًا في صفوف الجيش ضمن لواء المشاة، بما أن لديهم أرقامًا عسكرية وجزء منهم يتلقى رواتب أو إمدادات عبر المؤسسة العسكرية. وكان رد فعل قائد أولاد قمري حسين يحيى محمد جمعة قمري (المعروف بالتوم قمري) الرفض القاطع للانصياع لتوجيهات الاندماج، معلنًا عصيانًا صريحًا. ثم ارتدى حسين قمري رتبة عسكرية رفيعة (مقدم) على زيه بشكل استفزازي، وصرّح متوعدًا بأنه سيستخدم القوة ضد أي جهة تحاول الاقتراب منه لفرض الأوامر. اعتبرت السلطات المحلية تصرف حسين تمردًا واضحًا على سلطة الجيش، خاصة وأن أفراد كتيبته يُفترض أنهم تحت القانون العسكري. وتفاقم التوتر مع تداول أنباء عن أن مجموعة أولاد قمري التي فضّلت التحالف مع قوات “درع السودان”، بدلًا من الاندماج الكامل في الجيش. وتشير بعض المصادر أن عناصر من أولاد قمري قد اشتركوا في القتال إلى جانب قوات درع السودان في جبهات كردفان خلال عام 2025، مما أثار حفيظة قيادة الجيش التي اعتبرت ذلك ولاءً مزدوجًا وتحركًا خارج نطاق أوامرها.
وإلى جانب تمردها ضد القوات المسلحة، أشارت تقارير إلى ضلوع أفراد المجموعة في أعمال نهب وانتهاكات ضد المدنيين عند حواجز التفتيش التي أقاموها، فضلاً عن استمرار نشاطهم في تعدين الذهب وتهريبه بشكل مستقل. فولدت هذه الأنشطة غير المنضبطة شكوكًا داخل المؤسسة العسكرية حيال مدى ولاء أولاد قمري الحقيقي وغاياتها، خاصة مع اتساع نفوذها الاقتصادي المحلي خارج إطار الدولة. ويبدو أن المجموعة قد بدأت تشعر بأنها قوة قائمة بذاتها ذات موارد وعلاقات خاصة، وليست مجرد مليشيا مؤقتة تحت إمرة الجيش. كل تلك العوامل مهدت الساحة للمواجهة المباشرة التي وقعت في أواخر نوفمبر 2025، عندما قرر الجيش استعادة زمام الأمور ووضع حد لعصيان أولاد قمري المتصاعد.
مجريات اشتباكات دنقلا في نوفمبر 2025
اندلعت مواجهة عسكرية محدودة بين الجيش ومجموعة أولاد قمري في مدينة دنقلا – حاضرة الولاية الشمالية – 21 نوفمبر 2025، لتشكل أول اشتباك دموي من نوعه في تلك الولاية الهادئة بين قوات نظامية وميليشيا محلية. فيما يلي تسلسل أبرز الأحداث وتطوراتها:
1. مساء الجمعة 21 نوفمبر 2025 – وقعت اشتباكات مسلحة في محيط الميناء البري (محطة الحافلات) بمدينة دنقلا بين قوة من القوات المسلحة ومسلحي أولاد قمري. جاء ذلك إثر محاولة الجيش تنفيذ قرار دمج الكتيبة المتمردة وضبط تحركاتها، حيث رفض قائد أولاد قمري تسليم أسلحته وبدأ عناصره في التمترس بمواقع داخل المدينة. تطور الأمر سريعًا إلى تبادل لإطلاق النار أسفر عن سقوط قتلى وجرحى من الطرفين. تؤكد التقارير أن الجيش فقد أحد جنوده على الأقل خلال الاشتباك، كما قُتل حارس قائد الميليشيا وأصيب قائدها حسين قمري إصابة بالغة نقل على إثرها للمستشفى. وذكرت مصادر أخرى أن عدد قتلى المتمردين بلغ اثنين على الأقل في موقع الحادثة بينما اعتُقل العشرات من بقية عناصر أولاد قمري فور سيطرة الجيش على الموقف.
2. السبت 22 نوفمبر 2025 – أعلنت لجنة أمن الولاية الشمالية في بيان رسمي “بأن تكون كل القوات المستنفرة من أبناء الولاية تحت أمرة القوات المسلحة وتعمل في إسنادها وفقاً لضوابطها”، ثم أصدرت “توجيهات لكتيبة الاستطلاع (أولاد قمري) بالانخراط في العمل باللواء (75) مشاه دنقلا”؛ لأن الكتيبة المشار إليها “يحمل أفرادها نمراً عسكرية تجعلهم خاضعين لقانون القوات المسلحة”؛ إلا أن “قائد الكتيبة المدعو حسين يحي محمد جمعه التوم قمري”، رفض “الانصياع لهذه التوجيهات وأظهر عصياناً لتنفيذها، وزاد علي ذلك بأنه قام بارتداء رتبة عسكرية (مقدم)، بعد ذلك دخل المذكور في تحدي بأنه سوف يستخدم القوة لكل من يقترب منه”. وأكد البيان أن القوات المسلحة تمكنت من القضاء على التمرد وإعادة بسط الأمن في دنقلا بشكل كامل، واعتقال العشرات من أفراد مجموعة أولاد قمري ومصادرة معظم مركباتهم وأسلحتهم الثقيلة والخفيفة التي كانت بحوزتهم. وعلى صعيد الإجراءات، أمهلت السلطات بقية أفراد أولاد قمري المختبئين مهلة 48 ساعة لتسليم أنفسهم وما بحوزتهم من أسلحة ومركبات إلى قطاع دنقلا العملياتي دون مقاومة. وحذّرت اللجنة الأمنية بأنها ستتعامل بحزم (الضرب بيد من حديد) مع كل من يحاول زعزعة أمن المواطن أو يرفض الامتثال للأوامر.
3. الإثنين 24 نوفمبر 2025 – بعد انتهاء مهلة اليومين وعدم تسليم جميع المطلوبين لأسلحتهم، نفذت السلطات حملة أمنية واسعة في دنقلا لتطهير المنطقة من مجموعة أولاد قمري. انتشرت قوات مشتركة من الجيش والشرطة وجهاز المخابرات العامة بشكل مكثف في أحياء المدينة، وطوقت حي البان جديد تحديدًا بعد ورود معلومات باحتماء بعض عناصر الميليشيا فيه. قامت هذه القوة المشتركة بعمليات تفتيش من منزل إلى آخر لجمع الأسلحة والمتفجرات التي قد تكون مخبأة، ومنعت المدنيين من الاقتراب من منطقة العمليات حرصًا على سلامتهم بنهاية ذلك اليوم، أعلنت لجنة أمن الولاية عودة الهدوء والاستقرار التام إلى مدينة دنقلا ومحيطها، مؤكدةً أن القوات النظامية تبسط سيطرتها الكاملة على الوضع الأمني.
دلالات الأحداث وأثرها في الأمن والعلاقة بالميليشيات
يحمل تمرد “أولاد قمري” في دنقلا دلالات مهمة على المستويين المحلي والقومي في السودان، لا سيما فيما يتعلق بأمن الولايات المستقرة نسبيًا وبعلاقة الجيش مع الميليشيات الحليفة له. فبروز اشتباك عسكري في قلب الولاية الشمالية يعكس انتقال عدوى الانفلات الأمني إلى مناطق لم تكن مُهيأة لمثل هذه الاضطرابات. لقد أثبتت هذه الحادثة أن تغلغل مجموعات مسلحة خارج إطار المؤسسة العسكرية النظامية حتى في الشمال يمكن أن يُحوّل مناطق آمنة إلى ساحات تمرد، خاصة عندما تمتلك تلك المجموعات موارد اقتصادية ونفوذًا محليًا مستقلًا عن الدولة (مثل عائدات التهريب والتعدين كما في حالة أولاد قمري). وهكذا أصبح قرار التمرد لدى قادة الميليشيات أسهل من قرار الطاعة حين يشعرون بأن لديهم قوة ذاتية تمكنهم من تحدي السلطات. على مستوى العلاقة بين الجيش وحلفائه من التشكيلات المسلحة، كشف رفض قائد أولاد قمري الانصياع لأوامر الاندماج ثم اشتباكه مع الجيش عن خلل جوهري في استراتيجية السلطات. لقد اعتمدت الحكومة السودانية سياسة الاستعانة بالمليشيات المؤقتة لتحقيق أهداف آنية – كما حدث سابقًا مع تكوين مليشيا الجنجويد لمواجهة التمرد في دارفور والتي تحولت لاحقًا إلى قوات الدعم السريع. إلا أن تجربة أولاد قمري أكدت مجددًا أن هذا الحل المؤقت يتحول مع الوقت إلى واقع دائم ثم إلى عبء أمني خطير، يهدد بقاء الدولة نفسها. فعندما تكبر تلك الكيانات الموازية وتستقل بقرارها نسبيًا، يصبح من الصعب جدًا على الحكومة استرجاعها أو حلّها دون كلفة عالية. ويرى مراقبون أن ما جرى في دنقلا ليس سوى انعكاس مكثف للأزمة الأعمق التي تضرب بنية الدولة السودانية في ظرف الحرب الحالية، حيث تغدو الدولة ذاتها مجرد طرف آخر مسلح بين أطراف عديدة إذا استمر انتشار المليشيات خارج سيطرتها. إن تمرد أولاد قمري – رغم محدودية نطاقه – دق ناقوس الخطر بأن السودان يواجه احتمال تكرار سيناريو “الدعم السريع” على نطاقات جغرافية أصغر وفي أقاليم مختلفة. فبعد سقوط نظام البشير في 2019، برزت عدة مجموعات مسلحة جديدة مثل “درع السودان” في الوسط والشمال، و”تمازج” في الجنوب والشرق، وغيرها من التشكيلات التي حركتها الولاءات السياسية والصفقات أكثر من انضباط المؤسسة العسكرية. بعض هذه المليشيات غيّر ولاءه وانتقل بين المعسكرين (الجيش والدعم السريع) بحسب مصالحه، مما أكد هشاشة الاعتماد عليهم. وبالتالي فإن ولاء السلاح خارج المؤسسة الرسمية ثبت أنه ولاء متحوّل لا يمكن الركون إليه، بل قد ينقلب على صانعيه كما شهدنا في حالة دنقلا.
في ضوء ذلك، أصبحت إعادة تقييم العلاقة بين الدولة والمليشيات المسلحة أمرًا لا مفر منه للحفاظ على ما تبقى من هيبة الدولة وسيادة القانون. لقد برهنت تجربة دنقلا أن الحل الأمني المباشر – على أهميته في الوقت الراهن – ليس كافيًا لوحده. فلا يمكن لأي حكومة إدارة عشرات الجماعات المسلحة الحليفة وتتوقع بقاءها جميعًا تحت السيطرة بشكل دائم. بل ينبغي اتخاذ قرارات استراتيجية حاسمة تقضي إما بدمج هذه القوات بالكامل في منظومة عسكرية وأمنية واحدة خاضعة لقيادة مركزية، أو بنزع سلاحها وتسريح أفرادها ضمن برامج رسمية. أما إبقاء تلك التشكيلات في حالة “نصف شرعية” وكأنها قوات رديفة للجيش دون ضبط محكم فهو وصفة مؤكدة لإعادة إنتاج سيناريو الدعم السريع بصيغ جديدة في المستقبل.




