*دولة تُعدِم ضحايا الوشاية… وقضاءٌ فقد آخر قطرة عدالة*

في الزمن الطبيعي…
تكون العدالة ميزانًا، ويكون القضاء حارسًا للحق، ويكون القاضي آخر جدار يمكن أن تسنده روح المظلوم.
لكن ما نعيشه اليوم ليس طبيعيًا، ولا قريبًا من أي شيء يشبه دولة تحترم نفسها أو شعبها.
نحن أمام لحظة سودانية قاتمة، لحظة يتساوى فيها الظلم مع القانون، وتصبح فيها الشبهة حكمًا، والوشاية دليلًا، والخوف قاضيًا.

لقد انقلبت الطاولة، وصرنا أمام قضاء لا يدقق… لا يراجع… لا يتمهل… بل يركض نحو الإعدامات ركضًا.
وأخطر ما فيه أنه صار يقدّم “الضعفاء” كأنهم أكباش فداء، ويغض الطرف عن كل من شارك في تسليم المدن، وكل من ساهم في الخراب السياسي، وكل من لوّث البلاد لعقود.

وسط هذا الظلام، يبرز اسم
الناظر هباني.
رجل تجاوز الخامسة والسبعين

هباني اليوم أصبح ضحية رسمية للقضاء الأعور الذي
لا يرى إلا المواطن البسيط،
لا يسمع إلا الصوت الذي يقول “أدِن”،
لا يهتم بما بين السطور
ولا يقترب من ملفات الكبار.
كأنه مُعيَّن فقط لإسدال الستار على أرواح الناس.

أصبحت القاعة التي يقف فيها هباني مسلخًا للضعفاء.
يدخل المتهمُ مذنبًا قبل أن يبدأ التحقيق
وتُقرأ عليه التهم كأنها قصيدة محفوظه
وتصدر الأحكام أسرع من دقات قلب أم تنتظر ابنها خارج المحكمة
وأحيانًا تُكتب الأحكام قبل أن تُكتب الأسئلة.

أي قضاء هذا؟
وأي قاضٍ هذا الذي يختصر حياة إنسان بكلمة وشاية من جار أو حاقد أو منافق؟
سجون مليئة بالمظلومين… وقضاء لا يتوقف عن الحفر في القاع

في السجون اليوم، يقبع رجال وشيوخ ونساء وشباب، بعضهم لم يعرف معنى كلمة “تعاون”، وبعضهم هرمٌ يبحث عن قوت يومه، وبعضهم بسطاء فقدوا القدرة على شرح أنفسهم.
كل ذنبهم أنهم كانوا في المكان الخطأ، أو تحدث عنهم شخص حاقد، أو وشى بهم أحد ليحمي نفسه، أو أراد البقاء خارج دائرة الشبهة.

الوشاية أصبحت قانونًا.
الكلام في الشارع أصبح تهمة.
الخوف أصبح دليلًا.

وهنا، يجب أن نتوقف ونسأل
من الذي سلّم الحاميات؟ من الذي فتح الأبواب؟ من الذي صنع الخراب الحقيقي؟
هل هم أولئك البسطاء في السجون؟
أم أنهم أسماء كبيرة في الدولة والسياسة والمجتمع… لم يجرؤ القضاء حتى على فتح ملف واحد منهم؟

لماذا تُنفذ الإعدامات على الذين لا ظهر لهم؟
ولماذا الصمت أمام الذين غذّوا الفساد، وساهموا في انهيار البلاد، وأمسكوا بزمام السلطة لسنوات دون مساءلة؟
دولة تحكم المواطنين بالشك… لكنها تخاف الاقتراب من الكبار

هذا القضاء لا يفرّق بين خطأ وجريمة.
ولا بين وشاية وحقيقة.
ولا بين مواطن بسيط ومسؤول كبير.

إنه قضاء يعمل بمنطق “اضرب الأضعف أولًا”.
لأنه الأرخص… الأسهل… الأضمن.
ولا يحتاج لوجع رأس أو مواجهة أو كشف ملفات.

لكن العدالة التي تقتل الضعفاء وتخاف من القوي ليست عدالة…
إنها صفقة.
صفقة بين الخوف والتواطؤ، بين تبرير الفشل وبين البحث عن “صورة انتصار” على حساب أرواح الأبرياء
هباني… والظلم الذي أجهض العدالة

المتهم الذي حكم عليه بالاعدام هو رجل كهل تجاوز السبعين، رجل تجاوزت حياته مراحل الحصاد، لكن حياته لم تُحترم، وكرامته لم تُحمَ.
كل ما حدث له بدأ بـ وشاية ضعيفة، كاذبة، بلا دليل…
وشاية أطلقت شرارة الظلم، وحوّلت حياته إلى محنة لا تنتهي، وحوّلت القضاء نفسه إلى آلة قمع

إن الظلم الذي وقع على هذا الرجل الكهل هو أقصى درجات الانحراف القضائي.
حيث تحوّلت الشبهة إلى حكم، والوشاية إلى عقوبة، وحقوق الإنسان إلى مجرد ورقة تُحرق في غرفة المحكمة.

القضاء الذي يُساق به رجال كبار في العمر إلى الحكم بلا تدقيق،
هو قضاء فقد كل معنى للعدالة،
ودولة فقدت صوابها حين سمحت لمثل هذا الظلم أن يُنفذ.
العدالة ليست كيس رمل… ولا برنامجًا انتخابيًا… ولا عصا للتهديد

العدالة ليست مشهدًا للعرض، ولا استعراض قوة على الضعفاء.
العدالة هي آخر ما تبقى من شرف الدولة.
وإن سقطت العدالة، سقطت الدولة كلها.

إعدام شيخ في السبعين لم تثبت عليه جريمة،
وحبس شباب بتهمة لم تُثبت،
وتحويل القضاء إلى غرفة تنفيذ عاجل للقرارات…
كلها خطوات تدفع البلاد نحو الهاوية.
المطلوب واضح… ولا يحتاج لجلسة أخرى

الإفراج الفوري عن كل سجين بُني ملفه على وشاية أو شك أو بلاغ لا يملك دليلًا.

إيقاف كل الإعدامات فورًا حتى تُراجع الملفات مراجعة حقيقية لا شكلية.

إعادة فتح الملفات التي تم طيّها لإرضاء شخصيات نافذة.

إخضاع الناظر هباني وكل من سار على نهجه للمحاسبة المهنية.
اذا ثبت ادانته بعد التدقيق
إعادة الاعتبار للقانون قبل أن يتحول إلى أداة قمع دائم.
العدالة تُنقذ الدول… والظلم يهدمها من الداخل

ليس الخطر في الحرب.
ولا في الانهيار الاقتصادي.
ولا في الصراع السياسي.

الخطر الحقيقي هو…
قضاء يحمل مقصلة ويقتل المظلوم، بينما يربّت على كتف الظالم.

الخطر الحقيقي هو أن تصل البلاد إلى مرحلة يقف فيها المواطن البسيط أمام القاضي وهو يعلم مسبقًا أنه “مذنب” حتى يثبت العكس… والعكس لا يُثبت.

الخطر الحقيقي أن يصبح “الحق” كلمة مكسورة، و”العدل” كلمة مطموسة، و”الناس” مجرد أرقام يمكن استبدالها.

هذه ليست دولة…
هذه نسخة سوداء من العدالة…
نسخة لا تليق بشعب ضحّى، ولا بمستقبل ينتظر الإنقاذ.

إن لم تُصلح العدالة اليوم،
فلن يبقى غدٌ يستحق الإصلاح

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole