كلما ظن السودانيون أن الفساد بلغ نهايته، خرجت الشركة السودانية للموارد المعدنية لتقول لهم:
لا… ما زال تحت الأرض ما هو أعمق، وما زال فوق الأرض من هو أخطر.
هذه الشركة ليست مؤسسة…
إنها مملكة مظلمة لها بوابات وحراس وجباة وسماسرة وملوك ووزراء
تدير الذهب كما تُدار الدول:
بالخوف، بالرشوة، بالتستر، وبقوة النفوذ.
وإذا كان السودان قد عرف الفساد في مؤسساته، فإن الشركة السودانية للمعادن — تحديدًا — عرَّفته بمعناه الكامل:
نهب، تزوير، تهريب، ابتزاز، شراء صمت، واتجار بثروة شعب لا يرى منها شيئًا.
فضيحة الـ 440 مليار جنيه ليست حادثة…
هي مجرد قشرة رقيقة فوق بركان عفن انفجر أخيرًا.
أولًا: 440 مليار جنيه… ثقب أسود ابتلع المال العام ثم ابتلع معه كرامة الدولة
عندما يقول ديوان المراجعة ا إن مبلغ 440 مليار جنيه صُرف دون:
مستند
مشروع
مستفيد
فاتورة
أو حتى ورقة منزوعة الحبر…
فهذا لا يسمى تجاوزًا.
هذا يسمى ارتكاب جريمة منظمة بمستوى عصابات الكوكايين في أميركا الوسطى.
أموال تُسحب من الخزينة كأنها غنيمة حرب.
أموال تتحرك بلا أثر، كأنها ظلال.
أموال تُصرف تحت بند “التسيير”، وهو بالمناسبة البند الذي دُمر تحت اسمه نصف اقتصاد السودان.
ثانيًا: الشركة… ليس لها تاريخ “مشرف” تتلوث بالفساد. بل لها تاريخ “فاسد” يُكمله هذا الفساد
سنسمي الأمور بأسمائها:
منذ التأسيس… الشركة لم تكن يومًا مؤسسة دولة
كانت دائمًا:
صرافة للنافذين،
ماكينة نقدية للسلطة
حاضنة لتهريب الذهب
غرفة عمليات للتستر على السرقات
سوقًا خلفيًا للعقود القذرة
مظلة رسمية لتخريب أكبر ثروة في البلاد.
لم يمر مدير عام واحد — مدني أو غيره — إلا وخرج من منصبه أغنى مما دخل.
ولا مشروع واحد اكتمل بشروطه.
ولا عقد واحد مرّ من دون رائحة فساد.
هذا ليس تحليلًا.
هذا تاريخ موجود في الأدراج المُغلقة التي لم يفتحها أحد.
المدير العام… ليس موظفًا. إنه “إقطاعي ذهب” في جمهورية اللصوص
حين تخاف المراجعة إن تقول اسم اللص المسؤول الأول، فذلك يعني أن اللص كبير جدا… لكنه ليس وحده .
لا يعمل اللص وحده هناك ايد خفية تبتلع معهم
يعمل في شبكة تحميه
وزراء
قادة سياسيون
نافذون
مسؤولون في الولايات
ضباط أمن
رجال أعمال
مستثمرون لا علاقة لهم بالاستثمار إلا في السرقة.
هذه شركة تُدار كعصابة وليس كمؤسسة
المدير العام يوقع
المدير التنفيذي يصرف
قسم الخدمات يغطي
الإدارة المالية تصمت
الوزارة تغض الطرف
والدولة كلها تمثل دور العاجز.
بند التسيير… أوسع بوابة للسرقة في تاريخ المالية السودانية
هذه ليست مبالغة.
كل فساد السودان — تقريبًا — خرج من بوابتين:
مشتريات الطوارئ
بند التسيير
التسيير يعني:
مال بلا رقابة،
صرف بلا سقف،
سحوبات بلا مسوغ
مهام مجهولة رؤي
إعاشة خيالية
مأموريات لا يعلم بها أحد.
هو البند السحري الذي حول ميزانيات الدولة إلى صناديق سوداء
في الشركة السودانية للمعادن، تحول بند التسيير إلى خزانة شخصية لعدد محدود من الأشخاص.
الفساد في الشركة ليس سلوكًا طارئًا… إنه “نظام حكم” قائم بذاته
هذه الشركة تعمل وفق نظام ثلاثي:
غياب المستندات كسياسة
عدم التوثيق ليس صدفة.
هو حماية.
هو طريقة لإخفاء الأطراف.
هو أسلوب لتضليل المراجع
وجود نفوذ يحمي كل شيء
النافذون يعرفون التفاصيل.
يعرفون أين يذهب الذهب.
يعرفون من يحصل على العقود.
ويعرفون من يجب ألا يُسأل.
لجان شكلية تُصنع لتبرير الكوارث
اللجان ليست للمراجعة.
هي للتمويه.
هي لدفن الحقائق.
هي لطمأنة الشعب… لا لمحاسبة الفاسدين.
أين ذهب الذهب؟ أين ذهب المال؟ أين ذهب السودان؟
السؤال الأخطر ليس:
أين ذهبت 440 مليار؟
السؤال الحقيقي هو:
كم مليار سبقته قبل أن نصل إلى هذا الرقم؟
كم مليار خرج تحت بند:
الدعم الاجتماعي”؟
المسؤولية المجتمعية”؟
تعويضات التعدين”؟
معالجة مشاكل الولايات”؟
تسيير الشركات”؟
اللجان الفنية”؟
الشراكات الاستثمارية”؟
لو فتحنا الدفاتر…
سيكتشف الناس أن 440 مليار مجرد دفعة واحدة** من سلسلة نهب طويلة بدأت منذ اليوم الأول.
الفساد في المعادن أخطر من الفساد في البترول
والسبب بسيط:
البترول كان ينتج من حقول محددة…
بينما الذهب يُنتج في:
12 ولاية،
30 منطقة،
400 موقع إنتاج
آلاف الآبار
ومئات الشركات الصغيرة.
وهذا يعني:
النهب أسهل، التهرب أسهل، التزوير أسهل، والسرقة أسهل
السودان دولة ذهب… لكن المواطن يعيش كأنه دولة تراب
ننتج الذهب، لكننا نموت جوعًا.
نصدر الذهب، لكننا نعاني من العجز.
نملك الذهب، لكننا نفقد العملة.
نستخرج الذهب، لكن لا مستشفى يعمل بكفاءة.
السبب؟
الشركة السودانية للمعادن حولت نعمة الذهب إلى نقمة.
ديوان المراجعة صرخ… لكن من يسمع في دولة فقدت أذنيها؟
المطالبة باسترداد المبلغ خطوة ممتازة…
لكن هل سيسترد أحد شيئًا؟
هل ستُفتح بلاغات؟
هل ستصل القضية النيابة؟
هل سيحاسب مدير واحد؟
هل ستتجرأ الدولة على فتح ملفات الذهب؟
الجواب المؤسف لا
لأن الملف متشعب
والمتورطون كبار
والفساد محمي
والذهب أكبر من الدولة نفسها.
الشركة السودانية للمعادن… أخطر جهاز مافيوي بعد المليشيا
نعم.
وبكامل المسؤولية أقول:
الشركة السودانية للمعادن هي ثاني أخطر جسم تخريبي في السودان بعد المليشيات المسلحة
تليها الاتصالات، ثم الجمارك، ثم الأراضي.
هذه ليست مؤسسة.
هذه مجرّة فساد تدور حول نفسها منذ سنوات، ولا أحد يوقفها.
الحل؟
ثورة جديدة… داخل الذهب.
ثورة تُسقط هذا الجسم بالكامل.
ليس تغيير مدير.
وليس تغيير مجلس إدارة.
وليس تشكيل لجنة.
الحل الوحيد هو
تفكيك الشركة،
نشر تقرير سنوي إلزامي،
بناء نظام رقابة إلكتروني،
إخضاع الذهب للمؤسسات العدلية
محاكمة المتورطين دون رحمة.
أخيرًا…
الشركة السودانية للمعادن ليست فضيحة.
إنها جرح مفتوح ينزف منذ سنوات… ولم يعد يمكن تغطيته.
هذا العمود ليس كتابة…
بل طلقة
وطلقة التحذير الآن أصبحت متأخرة.
الوقت ليس وقت صمت.
الوقت وقت مواجهة.
والسؤال الذي يجب أن يُسأل الآن:
إذا كان الذهب — ثروة البلاد — ينهب بهذه الطريقة…
فماذا بقي للدولة لتعيش عليه؟




