يسعدني أن جمعية المحامين الديمقراطيين في جنوب السودان تُكرّم نتالي أولواك أكول اوين في هذا اليوم المبارك الذي نحيي فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، يؤسفني عدم تمكني من مشاركتكم في هذه الاحتفالية، غير أنني سعيد بأن أشارككم هذه الرسالة المختصرة.
كان نتالي أولواك زميلي في كلية القانون بجامعة الخرطوم، وقد ارتبط تعليمنا القانوني ومساراتنا الأكاديمية ببعضهما، وساهم كل منا في قضية السلام والعدل والكرامة لجنوب السودان بطرق مختلفة وبدرجات متفاوتة من الانخراط. اختلفنا في الوسائل أحياناً، لكننا اتفقنا دائماً على الهدف الأسمى لشعبنا. لذلك، فإن استذكارنا لما قدمه نتالي من علم قانوني وإنجازات مهنية يعيد إلى ذاكرتي زمالتنا وتجاربنا المشتركة.
التحقنا، نتالي أولواك وأنا، بكلية القانون في جامعة الخرطوم عام 1958، وتخرجنا عام 1962 بدرجة البكالوريوس مع مرتبة الشرف. وبالاشتراك مع زميل شمالي، محمد الفاتح، عُيّنا في هيئة التدريس وأُرسلنا إلى إنجلترا للدراسات العليا تمهيداً لأن نصبح محاضرين. وفي الجامعة، وبسبب دراستي السابقة في مدرسة ثانوية شمالية في خور طقت، كانت لدي صداقات قوية مع طلاب شماليين. حتى إن رفيقي في السكن كان من الشمال، وفي إنجلترا انتُخبت عضواً في اللجنة التنفيذية للطلاب، مما عزز علاقتي بالطلاب السودانيين الشماليين هناك.
وكما كنت أفعل في المدرسة الثانوية وجامعة الخرطوم، واصلت النقاش السياسي الصريح والبنّاء مع زملائنا الشماليين، لأُظهر لهم عدالة قضية الجنوب، خاصة تجاه السياسات القمعية التي كان يعاني منها أهلنا. إلا أن علاقاتي الوثيقة بالشماليين كانت تُنظر إليها بعين الريبة من قبل زملائي الجنوبيين في الجامعة، وكذلك من قبل نتالي ولورنس وول – الذي كان طالباً مسجلاً رسمياً لدى السلطات البريطانية لكنه في الواقع كان ممثلاً للحركة الجنوبية في أوروبا، ورئيس تحرير صحيفة Grass Curtain، الناطقة باسم قضية الجنوب في أوروبا. كان نتالي يعمل معه عن قرب، وكنا نحن الثلاثة مقربين اجتماعياً.
ورغم أنني لم أكن منخرطاً في النشاط السياسي المنظم، كنا نتشارك همّ قضية شعبنا ونتعاون في الدفاع عنها في المملكة المتحدة وأوروبا. كان نتالي ولورنس يعملان بسرية شديدة، ولذلك كانا يشعران بعدم الارتياح إزاء انفتاحي على النقاش السياسي مع الشماليين. وقد قال لي نتالي مرة إن مثل هذه الصراحة قد تضع أرواحاً كثيرة في خطر.
عندما زار وليم نيال لندن وغطت نشاطاته في الصحافة، سألني أحد الزملاء الشماليين – على سبيل الحديث العابر – إن كنا قد التقينا به، فأجبت دون تردد بأننا التقيناه. لاحقاً، وبّخني نتالي بشدة لاعترافي بلقاء رجل حُكم عليه غيابياً. شرحت له أن إنكاري لما حصل كان سيجعل الشماليين يشكون في كلامي، أو ربما يحتقروننا إن كنا نتجنب لقاء قائد من قادة نضالنا.
وفي إحدى المرات، حين صادف نتالي ولورنس زميلنا محمد الفاتح، قُدّم لورنس إليه على أنه طالب كونغولي، إذ كان نتالي حريصاً على حماية موقعه كموظف في جامعة الخرطوم، بينما كان لورنس يخشى ترحيله من بريطانيا بسبب نشاطه السياسي.
ومع أن تحفظاتهم كانت شديدة، فقد ثبت لاحقاً أن مخاوفهم في محلها. فقد تلقيت فجأة أمراً من الخرطوم بالعودة فوراً .
وسرعان ما علمت أنني متهم بقيادة حملة معادية للحكومة ليس فقط في المملكة المتحدة بل في أوروبا كلها. وبطبيعة الحال، لم يكن بوسعي العودة لمواجهة الاضطهاد. ورغم انتقادهم لأسلوبي السياسي، وقف نتالي ولورنس إلى جانبي، واستخدمنا ما جرى دليلاً على الاضطهاد الذي يتعرض له الجنوبيون بشكل عام.
والمفارقة أن زملائي – خصوصاً لورنس – حاولوا إقناعي بقيادة مظاهرة ضد الحكومة أثناء الزيارة المرتقبة للرئيس عبود إلى المملكة المتحدة. بحجة أنني لا أخسر شيئاً بعد ما حدث لي، بينما مشاركتهم العلنية ستعرضهم للخطر. لكنني رفضت ذلك لأنه يناقض النهج الذي التزمت به دائماً. وقد حُلّت المشكلة في النهاية بتدخل شخصيات شمالية مؤثرة انتهى بلقائي الرئيس عبود خلال زيارته الرسمية.
وفي تلك الأثناء، كان أستاذي السابق وليام توينينغ قد ربطني بأساتذة من جامعة ييل كانوا يزورون كلية لندن للاقتصاد، ومن خلال توصيتهم طلبت موافقة كلية القانون في الخرطوم لمواصلة الدكتوراه في ييل، لكن طلبي رُفض بحجة أن “الدور ليس دوري”. حصلت على منحة كاملة من ييل، فاستقلت وسافرت إليها لنيل الماجستير والدكتوراه. أما نتالي أكولاوين فأكمل الماجستير وعاد للتدريس في الخرطوم ، ثم عاد إلى إنجلترا للدراسات العليا في القانون والأنثروبولوجيا في جامعة أوكسفورد ، غير أنه استُدعي قبل إكمال الدكتوراه للانضمام إلى حكومة جنوب السودان الإقليمية لشغل منصب وزير الإدارة والشؤون القانونية برئاسة أبيل ألير. والبقية معروفة.
كان نتالي طالباً ذكياً، مجتهداً، ومخلصاً لقضية الجنوب، سواء في جامعة الخرطوم أو في المملكة المتحدة. كان شديد الحذر ودقيقاً في عمله السياسي، حتى إنه كان يعمل مع لورنس وول دون أن يشك به أي من زملائنا الشماليين ، وعلى الرغم من أنني لم أشارك في النشاط السري، فإن انتقاداتي العلنية جعلتني في نظر الكثيرين أكثر بروزاً منه سياسياً، رغم أنه هو الذي كان يعمل في الخفاء بكفاءة واعتراف من قيادة الجنوب، مما أهّله للعب دور مباشر في الحكومة، وهو الدور الذي شغله حتى نهاية حياته الحافلة.
ومن المناسب جداً أن تكرّم جمعية المحامين الديمقراطيين في جنوب السودان نتالي أولواك أكول اوين في مناسبة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
فقد كان عالماً قانونياً ومحامياً ومناضلاً مخلصاً لقيم الكرامة الإنسانية للجميع دون تمييز ورغم اختلافنا أحياناً، فقد كان زميلاً أحترم ذكاءه وتفانيه في خدمة شعبنا وبلادنا ، ويسعدني أن أرى المحامين الشباب يحتفون بذكراه وبما قدمه من خدمة جليلة للوطن وللقيم الإنسانية العالمية.



