*زيارة البرهان إلى السعودية: قراءة موسعة في الدلالات السياسية وتوازنات الإقليم ومآلات الحرب سامي النمر*

زيارة الفريق أول عبد الفتاح البرهان إلى المملكة العربية السعودية لا يمكن فهمها خارج سياق التحولات العميقة التي تمر بها الحرب في السودان، ولا بمعزل عن الضغوط الاقتصادية والإنسانية والدبلوماسية التي باتت تحاصر الدولة السودانية. فهي ليست زيارة بروتوكولية عابرة، ولا مجرّد لقاء مجاملات سياسية، بل تحرّك محسوب في لحظة حرجة تبحث فيها القيادة العسكرية عن إعادة تموضع إقليمي يخفف الكلفة المتصاعدة للحرب ويفتح نوافذ جديدة للمناورة السياسية.

في جوهر الزيارة، يسعى البرهان إلى تثبيت شرعية التعامل الخارجي مع السلطة القائمة بوصفها الطرف القادر على تمثيل الدولة السودانية في علاقاتها الإقليمية، وإرسال رسالة واضحة مفادها أن السودان، رغم الحرب والانقسام، لم يدخل دائرة العزلة الكاملة. فالسعودية، بثقلها السياسي والديني والاقتصادي، تمثل أحد أهم مراكز التأثير العربي والدولي، وأي تواصل مباشر معها يعني عمليًا اعترافًا بوجود مخاطَب رسمي يمكن البناء عليه في الملفات الكبرى، سواء تعلّق الأمر بالوساطة أو الدعم أو إعادة ترتيب المشهد الدبلوماسي.

كما أن الزيارة تأتي في لحظة بات فيها العامل الاقتصادي لاعبًا ضاغطًا على مسار الحرب، لا سيما مع تعقّد ملف النفط ومنشآت الإنتاج والعبور، وما يمثله ذلك من تهديد مباشر لموارد الدولة السودانية ولمصالح دول الجوار، وعلى رأسها جنوب السودان. هذا الواقع فرض منطقًا جديدًا يقوم على التفاهمات الاضطرارية حول حماية المنشآت الحيوية، وتحييد بعض الملفات الاقتصادية عن الاشتباك العسكري المباشر. ومن هنا تبرز السعودية كطرف قادر على لعب دور الضامن أو المنسّق لمقاربات تقلل الخسائر وتمنع انزلاق الصراع إلى تدمير ما تبقى من ركائز الاقتصاد.

الشق الإنساني بدوره يحتل مساحة مركزية في خلفية الزيارة. فالحرب أفرزت واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في الإقليم، مع تراجع الخدمات، وانهيار البنية الصحية، واتساع رقعة النزوح. وتدرك القيادة السودانية أن أي قدرة على الصمود الداخلي باتت مرتبطة بتدفق المساعدات الإنسانية وتأمين مساراتها. وفي هذا السياق، تملك السعودية القدرة على تحريك دعم مباشر، أو تنسيق جهود إغاثية أوسع، أو حتى الضغط لضمان وصول المساعدات، مقابل التزامات إجرائية وأمنية على الأرض، في صيغة غير معلنة من تبادل المصالح الواقعية.

ولا يقل عن ذلك أهمية البعد الأمني الإقليمي المرتبط بالبحر الأحمر والموانئ السودانية. فاستمرار الفوضى يضاعف مخاطر تهريب السلاح والبشر، ويهدد واحدًا من أهم الممرات الملاحية في العالم، وهو ما يجعل استقرار الساحل السوداني مسألة تتجاوز الشأن الداخلي. ومن مصلحة السعودية وجود شريك سوداني يمكن التفاهم معه حول أمن البحر الأحمر، وتأمين الموانئ، ومنع تحوّل الساحل إلى بؤرة فوضى مفتوحة، وهو ما يضفي على الزيارة طابعًا أمنيًا غير معلن لكنه شديد الحساسية.

سياسيًا، تحمل الزيارة رسالة توازن دقيقة. فالرياض تحرص على الظهور كوسيط لا كطرف منحاز، حفاظًا على قدرتها على جمع الأطراف مستقبلاً، بينما يسعى البرهان إلى كسب دعم سياسي دون الاندراج الكامل في محاور إقليمية مغلقة. لذلك تُقدَّم الزيارة في خطاب الاستقرار وإنهاء الحرب، لا في خطاب الاصطفاف أو الحسم العسكري، في محاولة لإعادة تسويق مسار سياسي أقل كلفة وأكثر قبولًا دوليًا.

أما على مستوى النتائج المتوقعة، فمن غير الواقعي الحديث عن اختراقات كبرى أو اتفاقات حاسمة في المدى القريب. المرجّح هو تبلور تفاهمات جزئية: إعادة تنشيط مسارات تفاوضية مجمّدة بصيغ جديدة، تنسيق حول ملفات اقتصادية حساسة، دعم إنساني مشروط بتحسين الوصول، ورسائل ضغط غير مباشرة على أطراف الصراع للانتقال من منطق الحسم المطلق إلى حسابات الكلفة والعائد. بمعنى آخر، تسعى الزيارة إلى توسيع هامش الخيارات أمام القيادة السودانية، ونقل الصراع جزئيًا من ساحة البندقية إلى ساحة الترتيبات السياسية والإقليمية.

في المحصلة، تعكس زيارة البرهان إلى السعودية إدراكًا متأخرًا بأن الحرب دخلت مرحلة الاستنزاف العميق، وأن استمرارها دون مظلة إقليمية ضابطة يهدد الدولة نفسها قبل أي طرف آخر. كما تعكس في المقابل رغبة سعودية في منع انفلات السودان بما يضر أمن الإقليم ومصالحه الحيوية. ونجاح الزيارة لن يُقاس بالبيانات الختامية أو الصور الرسمية، بل بقدرتها على ترجمة هذه التفاهمات إلى خطوات عملية خلال الفترة المقبلة، تخفف النزيف، وتفتح نافذة – ولو ضيقة – نحو مسار أكثر عقلانية لإنهاء الحرب وبناء الاستقرار.

مقالات ذات صلة

Optimized by Optimole